كلمات في الظل: الكتابة النسائية بين
الاعتراف والتهميش
"كيف تصبح الكتابة ساحة مقاومة في عالم
يرفض سماع المرأة"
في عالم يضج بالأصوات، تبقى كلمات الكاتبة كنداء في برية صامتة. فهي لا
تمسك بالقلم لمجرد التفريغ عن مشاعر مكبوتة، بل لتشق طريقًا لوجودها في فضاء يرفض
أن يسمعها. الكتابة هنا ليست مجرد حروف على الورق، بل فعل مقاومة يومي وشهادة على
زمن يريد للمرأة أن تبقى في الظل. لكن هذه المقاومة تواجه بتهم
"الثرثرة" و"الفضفضة"، وكأن صوت المرأة لا يحمل سوى همومها
الشخصية، لا هموم وطن أو قضية أو إنسان.
يبدأ الظلم عندما تُختزل الكتابة إلى مجرد وسيلة للتنفيس العاطفي. فحين
تكتب المرأة عن ألمها، يُقال لها إنها تبحث عن راحة نفسية. لكن حين ترفع صوتها ضد
ظلم ما، أو تكشف عن قصة تستحق أن تُروى، تتحول هذه الكتابة من "فضفضة"
إلى تهديد. يرفض المجتمع أن يرى في كلمات المرأة قوة قادرة على هز أركان الصمت،
فيحاول حبسها ضمن إطار ضيق، إطار المشاعر الشخصية التي لا تتعدى حدود الذات. لكن
الحقيقة أن كل كلمة تكتبها المرأة هي إعادة لرسم خريطة الوجود، تأكيد على حقها
في المشاركة في تشكيل الوعي الجمعي.
ويصل الظلم ذروته عندما تُمارس عملية التدقيق والصياغة، ذلك الجهد
الخفي الذي لا يقل أهمية عن عملية الكتابة نفسها. فالمنقحة، التي تقف خلف الكلمات،
تعيد صياغة الجمل، تختار المفردات بعناية، تبني المعاني طبقة فوق طبقة، لكنها تبقى
غير مرئية. يُنسب العمل في النهاية لمن وقّع عليه، وينسى من كان المهندس الحقيقي
للفكرة، من حول الكلمات الخام إلى تحفة فنية. هذا التجاهل ليس مجرد نكران للجميل،
بل إنكار لدور أساسي في العملية الإبداعية برمتها.
الأمر لا يتوقف عند حدود الاعتراف بالجهد، بل يتعداه إلى اعتبار هذا
العمل التحريري مجرد عمل تقني لا إبداعي. لكن الحقيقة أن كل جملة محذوفة، وكل كلمة
مستبدلة، وكل فقرة أعيد ترتيبها، تمثل خيارًا إبداعيًا بحد ذاته. المنقحة لا تصلح
الأخطاء اللغوية فحسب، بل تزرع الروح في النص، تجعل الكلمات تتنفس، وتمنحها القوة
لتصل إلى القلوب قبل العقول.
في الختام، تكمن المشكلة الحقيقية في النظرة الدونية لعمل المرأة
الكتابي، سواء أكان كتابة أم تحريرًا. فالمرأة التي تكتب لا تطلب إعجابًا أو
مجاملة، بل اعترافًا بأن كلماتها تستحق أن تُسمع، وأن جهدها يستحق أن يُرى.
الكتابة ليست ترفًا يمكن الاستغناء عنه، بل سلاح الضعفاء في مواجهة آلة التهميش والإقصاء.
والمنقحة التي تظل خلف الكواليس هي كالمخرجة التي تنسق كل مشهد، بينما يشاهد
الجميع الممثلين فقط. الاعتراف بجهودها ليس منّة، بل حق من حقوقها كشريكة في صناعة
المعنى وإنتاج الثقافة.
الاعتراف بالكلمة، سواء المكتوبة أو المحررة، هو الضوء الذي يمنحها الحياة،
والحق الذي يحررها من الظل.
جهاد
غريب
نوفمبر
2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق