في موئل الأرواح
"بحثًا عن دفءِ
اليد خارج الشاشة"
كانت الومضةُ كخاطرٍ عابرٍ يلمع في ظلمة الغياب، توصلُ الشيءَ، ولكنها لا تُغني عن اللقاء. تحملُ كلماتٍ مكتوبةً، أو صوتًا مُسجَّلًا، أو صورةً متجمّدة، لكنها تخلو من ذلك الدفء الغامض الذي يهبُه حضورُ الإنسان، ومن تجاعيد ضحكته الصادقة، ومن ثقل الوجود الذي لا يُختزل في نبضة إلكترونية. من رائحته، ومن ذلك الصمت الدافئ الذي لا يُخجله صمتُ الشاشات البارد، بل يحتضنه كصديقٍ قديم.
في العالم الرقمي، نُرسل "اشتقتُ إليك" في ثانية، لكننا لا نعيش ارتجافة الشوق، ولا ننتظر الردّ كما ينتظر القلب خفقةً حقيقية. لا يمكن تسريع لحظة احتضان، ولا ضغط زرّ لتجاوز ارتباك اللقاء الأول. الزمن هنا لا يُختصر في سهم يتجه للأمام، يُعاش نبضةً نبضة، ويُتنفّس كالهواء.
فتساءلتُ: أترانا، في زمن السرعة هذا، حيث تتهاوى الجبالُ في رسالة، وتُختزل الأحزانُ والأفراحُ في "إعجاب"، ننسى أن للحضور قداسةً لا تُستبدل؟ ألا نرى أننا ندفنُ الحميمية تحت ركامٍ من البيانات المتدفقة؟ نلهث وراء الظلّ الواهن للافتراضي، نتبادل فيه الومضات، ونظنُّ أننا نلمسُ بعضنا، بينما نحن لا نلمس سوى زجاجٍ باردٍ يصدُّ الأرواح، كحاجزٍ سميك بين قلبين متعطشين.
قد أقمنا لأنفسنا سجنًا زجاجيًا شفافًا، نرى من خلاله العالم ولا نستطيع معانقته. باتت مشاعرنا مُعرَّضةً للعرض في السوق الافتراضية، لا للعيش في حديقة الحياة. إنه ظلٌّ يخيِّل إلينا أنه يغذينا، بينما هو يسرق منّا رويدًا رويدًا لذّة التماسِ الأرواح الحقيقية، ودفءَ اليدِ عندما تصافحُ يدًا، وبرودةَ العرقِ على الجبين، وارتجافةَ الصوتِ عندما يخرجُ من أعماق الحنجرة لا من مكبرات صوت.
الجسد ليس مجرد هيئة تُلتقط بعدسة، بل حرارةٌ تُشعر، وخطىً تُسمع، وارتباكٌ يُرى في حركة اليد وهي تبحث عن مكانها على الطاولة. في الواقع، الجسد يتكلم دون كلمات، ويعتذر دون نص، ويحبّ دون رموز.
في هذا الواقع، في مديحِ أرضيته الصلبة، تكمنُ الحكايةُ الحقيقية. هنا، حيث لا "زرّ حذف" لمشاعرَ فاضت عن آخرها، ولا "فلتر" يلمعُ الحقيقةَ العارية، بل مرآةٌ صادقة تعكس الوجه كما هو، بتصدعاته وضيائه. هنا، في الواقع، نجدُ أنفسنا مرغمين على مواجهة هشاشتنا وجمالنا معًا.
في كل لقاءٍ حقيقيّ، هناك طقسٌ صغير يعيد ترتيب الروح: فنجان قهوة يُقدَّم بصمت، ونظرةٌ تُقال قبل أن تُقال، ولحظةُ صمتٍ لا تُكسر، بل تُحترم. هذه الطقوس لا تُبرمج، ولا تُنسخ، ولا تُرسل في ملفّ مرفق. إنها تُعاش، وتُحفر في الذاكرة كأثرٍ لا يُمحى.
نبحث، كغرباء في صحراء الاتصال المفرط، عن موئلِ الأرواح الحقيقيّ. ذلك الموطن الذي لا تُرفرف فيه الأرواحُ وحيدةً في فضاءات لا نهائية، بل تحتفي بلقاءاتٍ تخلق من صُلبِ الصمتِ كلامًا، ومن نظرةِ العينِ قصيدةً، ومن مصافحةِ اليدِ وطنًا بأكمله.
هناك كلمات لا تُقال، لكنها تُفهم. تُقال بنظرة، أو بانحناءة رأس، أو بتنهيدةٍ مشتركة. هذه اللغة لا تُترجم، ولا تُرسل، ولا تُحفظ في سجلّ المحادثات. إنها لغة الأرواح حين تلتقي، وتعرف بعضها دون مقدمات.
عودوا إلى حافة الطاولة، حيث رائحة القهوة تتصاعد بينكم، وأصوات الحياة الحقيقية تهمس بالوجود. عودوا إلى زمنٍ لا يُضغط، وإلى جسدٍ لا يُختزل، وإلى طقوسٍ لا تُنسى، وإلى لغةٍ لا تُكتب.
فلا تلهَ يا صديقي بظلِّ الماء عن الماء، ولا تبيعَ يقينَ اللقاء بوهمِ
الومضة. فإن ضللتَ الطريق في زحام الإشعارات، فابحث عن ظلّ إنسانٍ لا يُطفأ، وعن
صوتٍ لا يُضغط، وعن يدٍ لا تُرسل، بل تُمدّ. فموئلُنا الحقيقيّ ليس في سحابةٍ من
بيانات، بل هناك، حيث تتنفسُ الأرواح حقًا، إلى جواري.
جهاد غريب
أكتوبر 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق