مختبر
الوجود: سيمفونية الزجاج والنور
"عزلة
الصمت: المختبر الكوني للمصائر"
في مكانٍ لا يُقاس بالمسافة، ولا يُعرّف بالزمان، وُجد ما يشبه المختبر...
لم يكنْ عالماً
مرئياً، بل كان نقطةَ الصفرِ الكونية؛ حيثُ تُختزَلُ الكينونةُ إلى أنابيبَ
نورانيةٍ تعزفُ لحنَ المصيرِ الأوحد.
كانت هي الصَّمتَ النَّاطقَ، والفراغَ المُعَتَّقَ بالأنوار.
هناك، في حُجُبِ
الغيب، حيثُ لا أرض تُسمّى ولا سماء، كان المختبرُ يمتدُّ كحلمٍ متجلٍّ.
لم تكن جدرانُه من
مادة، ولا سقفَه من عالَم، بل كان فضاءً مُطلقًا تُنسَجُ فيه مصائرُ الأرواح
بأنابيبَ من نور.
أنابيبَ رقراقة،
شفّافة، تتنفّسُ بنورٍ بارد، يطلقُ مع كلِّ زفيرةٍ هَمْسًا خافتًا كصلاةٍ قديمة،
كلّما انتقلت روحٌ من مسارٍ إلى آخر.
كانت تتحرّك في رشاقةٍ بلا نهاية، كأذرعٍ كونيةٍ واعية.
كأن الزمن في هذا
المختبر لا يسير، بل يتنفس، يفتح مجاله لكل روحٍ كي تُعيد كتابة توقيتها الخاص.
وكانت الأرواح هناك، لا تُرى ككائنات، بل تُحسّ كاحتمالات.
لم تكن سوى كراتٍ
بلّورية، شتّى في حجومها، متفاوتةٌ في صفائها. بعضُها يشبهُ ندى الصّباح، وبعضُها
كحجرِ الكوارتز الذي لم يُصقل. وكانت بعض الكرات تُضيء من الداخل بخطوطٍ متشابكة،
كأنها خرائطٌ روحيةٌ لا تُقرأ إلا بالحدس. وفي داخلها شراراتٌ من نورٍ تتراقصُ
كذكرياتٍ أولى. كانت هذه الكراتُ تُحتضنُ بتلك الأنابيبِ النورانيّة، التي تختارُ
برفقٍ أيَّ روحٍ ستُمرّرُ في أيِّ مسار.
ومع كلِّ رحلةٍ في
تلك الأنابيب، كانت الفقاعاتُ تصعد.
كان صوتُها الموسيقى الوحيدة في ذلك الوجود: "بُوب… بُوب…". لم تكن فقاعاتِ هواء، بل كانت
لحظاتِ تحوّل.
كلُّ فقاعةٍ هي دمعةٌ
انحلت، أو جرحٌ التأم، أو فرحٌ تجلّى، أو حكمةٌ وُلِدت.
في الخلفية، كان هناك
رنينٌ خافت، لا يُشبه الموسيقى، بل كأنه صدىٌ قديمٌ لنيةٍ كونيةٍ تُعيد تشكيل
المسارات. كانت سِجِلَّ الزمنِ الداخليّ للأرواح. ومع كلِّ نقرةٍ خفيفة، كان وميضٌ
من ألوانٍ لا تُسمّى يتخلّلُ جوفَ الكرة البلّورية. أحيانًا كان لونَ أزرقِ
الياقوت، إشارةً إلى سلامٍ مُكتَسَب، وأحيانًا كان حمرةَ الذهب، إشارةً إلى شغفٍ
مُتوقِّد، أو أخضرَ الزبرجد، رمزًا لنموٍّ متجدِّد.
استسلامٌ في مسار النور
لم تكن الرحلةُ
دائماً مُريحة.
ثَمّةَ منعطفاتٌ
حادّةٌ كانت تُحدثُ شرخًا صغيرًا في جدارِ الكرة، فتشعرُ كينونتها بألمٍ حادٍّ
كوخزِ إبرٍ من ثلج، يتحوّلُ سريعًا إلى خدرٍ يذوبُ في كيانها.
وثَمّةَ حراراتٌ
عاليةٌ كانت تذيبُ بعضَ الشوائب، فتنطلقُ كبخارٍ من الألم، حاملاً معه شعورًا
بالخفة والتحرر.
لكنَّ الحكمةَ هنا لم
تكُن في المقاومة، بل في الاستسلام.
فالكرة التي تشدّدُ
على نفسها، تخشى التغيير، تظلُّ في مكانها، ثقيلةً معتمة.
أما التي تتنازلُ عن
صلابة شكلها، وتسمحُ للتجربةِ بأن تعبرها كالنور، فإنها تبدأ بالتحوّل.
من "شيء"
يُرى، إلى "نور" يُبصر.
فالتحوّل لا يحتاج
إلى قوة، بل إلى إذنٍ داخليّ بالعبور.
كان التوهّجُ هو
الغاية. كلّما ازدادت الكرةُ صفاء، كلّما قلَّ وجودُها الماديّ، وكادت تختفي في
النور الذي يغمرها. كانت تصبحُ كالنافذة التي تذوبُ في ضوء الشمس، حتى لمْ يعدْ
ثمّةَ فرقٌ بين الذي يرى والمنظورِ إليه. كانت تتحوّلُ من "شيء" يُرى،
إلى "نور" يُبصر.
الاكتمال: نهايةُ الشكلِ، بدايةُ الجوهر
وفي لحظةٍ ما، لا
أحدَ يعلمُ متى، بعد عددٍ لا يُحصى من الفقاعات والومضات، تأتي التجربةُ الأخيرة.
لا تكونُ الأقسى، بل الأعمق. تأتي كتنهيدةٍ كونيّة، فينكسرُ الغلافُ البلّوريُّ
الأخير.
لا صوتَ للانكسار. لا
فرقعة. فقط، انزياحٌ بسيطٌ في نسيجِ الواقع. في تلك اللحظة، ارتعش الفضاءُ كلهُ
كمرآةٍ مائية، وتوقفتْ الألوانُ عن الوجود لثانيةٍ عابرة، ثمَّ انهمرَ ما بداخلِ
الكرةِ كلهُ نورًا خالصًا. نورًا لا لونَ له ولا شكل، لأنه مصدرُ كلِّ لونٍ وشكل.
إنه الاكتمال.
وتلك الكرةُ التي
انكسرت، لم تمت... بل تذوّقتْ، لأول مرة، حلاوةَ كينونتها الحقيقية. لقد تخلّصتْ
من وعائها، وأدركتْ أخيراً أنها لم تكنْ سوى النورِ محبوسًا في قالب، يتوق إلى
الانطلاق. وهناك، في تلك اللحظة، يمتلئُ الفضاءُ كلهُ بسكينةٍ مُطلقة، وسلامٍ لا
يُوصف. سلامٌ لا يعني غيابَ الألم، بل يعني فهمَ معناه. سكينةٌ لا تعني الجمود، بل
تعني الانسجامَ التامَّ مع لحنِ الوجود الأعظم.
تتوقّفُ الأنابيبُ
النورانيةُ للحظة، كأنها تحيّي روحًا قد أكملتْ رحلتها. ثمّ تتابعُ حركتها الأبدية،
حاملةً أرواحًا أخرى، في دورةٍ لا تنتهي من الصَّقل... من الظلمةِ إلى النور، ومن
الشكلِ إلى الجوهر، ومن المصيرِ إلى المصدر.
ومن هناك، كانت الأرواح التي نعرفها تبدأ أول رعشةِ تنفسٍ في جسدٍ
جديد.
فما كان مختبرًا
للوجود، لم يكن سوى مرآةٍ كبرى يرى فيها النورُ نفسه، في
دورةٍ لا تنتهي.
جهاد غريب
أكتوبر 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق