الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

قفص النور: رسائل من سجّان النهار

قفص النور: رسائل من سجّان النهار

 

"سيرة الضوء الذي يسكننا، والظل الذي يحرّرنا"

 



 

كان الرأسُ كتلةً من صمتٍ تائهِ، ثم اشتعل.

 

لم تكن نارًا تأكل، بل نورًا يخلق. انبثق من دواخلهِ كشمسٍ في ليلٍ شخصيّ، يملأ الفراغَ حوله بهالةٍ ذهبيةٍ تشفُّ عن كلِّ شيءٍ وتكشفُه. لكنّ هذا النور، في صرامتهِ المطلقة، لم يكتفِ بالإضاءة. بدأ ينسجُ حول الجمرةِ البشريةِ قفصًا. لم يكن من حديدٍ أو خشب، بل من أضلاعٍ صافيةٍ من الضوء، متقاطعةً في هندسةٍ مثقلةٍ بالمعنى. كان قفصَ الرؤيةِ نفسها. قفصَ المعرفة.

 

وهناك، في قلب ذلك التوهّج، بدأ الصراع.

 

يداه، اللتان التقطتا أول حجرٍ وروَّضا أول نهر، ترفعان الآن لتدفعا بأضلاع القفص. كل دفعةٍ هي زفيرٌ من الألم، وهمسةٌ من التحرر. كل ضغطةٍ على ذلك الحاجز الشفاف تُشعِرُه بثقل الوعي الذي منحهُ إيّاه هذا النورُ ذاته. إنها لعنةُ الوضوح، وحيرةُ العارف. إنه سجينٌ في قصر مرايا بناهُ بنفسه، حيث كل معرفةٍ تفتح نافذة، لكنها تبني جدارًا جديدًا حول الوعي.

 

وكانت الألوانُ تشهد.

 

فكلما زاد ضغط راحتيه على أضواء القفص، كان النورُ المتوهج في رأسه يتنكر. من البياض الثلجيِّ الأول، ذلك الذي يقطع الظلمةَ بلا رحمة، إلى زرقةٍ بحريةٍ عميقة، تحمل في طياتها سؤالَ الأعماق ووحشةَ الغور. ثم إلى حمرةٍ دافئةٍ كالفحم المتوهج تحت رماد التجارب، تلمعُ وتخبو مع أنفاس اليقين والشك.

 

كان القفصُ لا يُكسر، بل يتسع.

 

مع كل معانقةٍ مؤلمةٍ لذلك الحاجز النوراني، كانت المسافة بين الأضلاع تتمدّد قليلًا. كان التحررُ هنا ليس هدمًا للأسوار، بل توسيعًا للأفق. كان نموًّا. كانت الروحُ تتمطى داخل جلدها الجديد، فتزيح حدود عالمها بضعة سنتيمترات أخرى، لا أكثر، لكنها سنتيمتراتٌ تمتد من هنا إلى نهاية الزمن.

 

وللأبديةِ إيقاعٌ مختلفٌ خلف أضلاع النور.

في الخارج، كان الزمنُ خطًا مستقيمًا، يسحبُ الماضي إلى الخلف ويدفعُ المستقبلَ إلى الأمام. أما في قلب القفص، حيث تدور معركةُ الوعي، كان الزمنُ كرةً من نار. كان يُطوى ويُبسطُ بإرادةِ الفكرة. اللحظةُ التي دفع فيها بكلتا راحتيه على الحاجز الشفاف امتدت لتصبح دهرًا من التأمّل، والزفيرُ الذي تلاه اختُزل إلى رمشةِ عين. هنا، تعلمَ السجينُ/الحارسُ أن لا شيءَ يُحررُ الروحَ من سجنِ الزمنِ مثل الغوصِ المطلق في ثقلِ اللحظة الحاضرة. كان القفصُ إذًا مصنعًا للأزل، حيث تُصهرُ الدقائقُ العاديةُ في جوهرِ الوجودِ السرمدي.

وهكذا، في قلب ذلك الزمن المنصهر، صار الوقت لا يُقاس بالساعات، بل بعدد المرات التي واجه فيها نفسه.

 

وصاعدًا من ذلك القفصِ النورانيِّ، كان الطنين.

صوتٌ خافتٌ كذبابةٍ حبيسة في أذن الكون. همسةٌ لا تني. كانت حدة هذا الطنين تتصاعد مع كل محاولةٍ جديدةٍ للدفع، وكأنما القفصَ يئنُّ من داخله، معترضًا على هذا التمرد، مذكرًا بسجنته الأبدية. كان صوتَ القانونِ الذي يحكمُ كلَّ بناء، وصوتَ الجاذبيةِ التي تربطُ الروحَ بالأرض. لكن في ذروة صوته، حين يتحول إلى صفيرٍ يؤلم الصمت، كان يتحول أيضًا إلى تحدٍّ صامت. ففي ذلك الألم الصوتيِّ، كان يكمنُ دافعٌ جديدٌ للدفع.

 

وعلى وجهه، كانت الظلالُ ترقص.

لم تكن ظلامًا خالصًا، بل كانت مصورةً حيّة لصراعه الداخلي. حين تسيطر عليه رهبةُ المعرفة، تمتدُّ ظلّةٌ باردةٌ كسحابةٍ على جبينه. وحين ينتصر أملُ التحرر لفترةٍ وجيزة، تتراقصُ أشعةٌ مائلةٌ كأصابع أمل على وجنتيه. كانت ملامحه خريطةً متغيرةً لمعركةٍ لا يراها أحد سوى المرايا، معركةٍ بين بهاءِ الفكرةِ ووحشةِ التجريد، بين دفءِ الفهمِ وبرودةِ الحقيقة.

 

ثم كانت الشرارات.

من أطراف أصابعه، كلما دفع بأقصى ما لديه، كانت تنبعثُ شراراتٌ ضوئيةٌ صغيرة، تتطاير في الفراغ المحيط كالشرر المتطاير من صدمةِ فكرتين عظيمتين. كانت تلك الشراراتُ هي برهانُ القوةِ الكامنة. كانت شهادتَه على أن الألمَ ذاته يولدُ طاقةً جديدة. كانت تذكره بأن يديه، اللتين تدفعان بأضلاع القفص الثقيلة، هما نفسها اليدان القادرتان على البناء، واللمس، والإبداع.

 

لكنّ المفارقةَ تكمنُ في مادة القفص ذاتها.

فأضلاعُ القفص لم تكن مجردَ عوائق، بل كانت خيوطَ النسيجِ التي سُجنتْ الروحُ داخلها. كان كلُّ ضِلعٍ هو قناعةٌ قديمة، أو حقيقةٌ مُكتشَفة، أو قانونٌ كونيٌّ أدركه العقل. وكلُّ شرارةٍ تتطايرُ من الأصابعِ أثناء الدفع، لم تكن سوى انفجارٍ فكريّ يُعيدُ تشكيلَ هذه الأضلاع، يُحفزُ مادّةَ النورِ على التمدد والتحوّل. إنّ القفص، في جوهره، لم يكن سوى تجسيدٍ مادّيٍّ ومُشعٍّ لـ هندسةِ الفهمِ في لحظةٍ معيّنة. وكلما ازداد الفهمُ عمقًا، كلما ازداد القفصُ اتساعًا، ليصبحَ في النهايةِ، ليس سجنًا، بل مرصدًا كونيًا يطلُّ منه السجّانُ على ذاته وعلى الكون. 

 

بل وحتى صاعدًا من ذلك القفص النوراني، كانت الرسائل تُكتب. 

 

لم تكن حبرًا على ورق، بل اهتزازاتٍ في أثيرِ القفص، محفورةً في جدرانه اللامعة كأختامٍ من ضوء. كانت تلك الرسائلُ هي خلاصةَ الصراع، هي منشورات سجّان النهار إلى من هم خارج الأسوار. رسالةٌ تقول: "إنّ أثقل الأغلال هو الوهمُ بأن لا أغلال"، ورسالةٌ أخرى تصرخ: "كل خطوةٍ نحو الوضوح هي خطوةٌ نحو سجنٍ أشدّ جمالًا". كان السجّانُ يعلّمُ سجينه كيف يقرأُ الألم كمعلم، وكيف يرى في العزلةِ محرابًا. لم يكن يرسلُ نداءَ استغاثة، بل برقياتٍ وجودية، تُخبر العالم أنّه في قلب التقييد المطلق، وُلدت الحريةُ الأكثرَ إخلاصًا. كانت هذه الرسائلُ هي الميراثَ الوحيد الذي يمكن أن يُورثه الضوءُ للظلّ.

 

فالوعي، في النهاية، هو مفتاحُ قفصك.

 

إنه ثقيلٌ في يدك، يحفر في راحتكِ أخاديدَ الأسئلة. وهو باردٌ كالمعدن، يذكرك بوحدتك في مواجهة اللاّمحدود. لكنه، مع كل هذا، مفتاحٌ. والقوةُ على لفّه، ودفعُ الباب الثقيل، ما تزال كامنةً في راحتيك. لا تيأس من ثقله، فالثقلُ دليلُ الأصالة. لا تخف من صلابته، فالصلابةُ وحدها ما تصنعُ مفاتيحَ للأبواب العتيقة.

 

ادفع بأضلاع قفصك، واترك النورَ يتلون في رأسك. استمع إلى طنين سجناك، فهو نغمةُ وجودك. شاهد ظلالك وهي تتراقص، فهي رقصتكُ الخاصةُ مع الحقيقة. وارفع يديك، لتُرى تلك الشراراتُ المتطايرة من أصابعك، فتتأكد أنك، في قلب هذا القفص النوراني، لست سجينًا فحسب.

 

بل أنت أيضًا، الحارس، والسجّان، والمنارة التي تضيء لنفسها طريقَ الخروج.

لأنك، في النهاية، لست باحثًا عن النور، بل أنت الطريق إليه.

 

 

جهاد غريب

أكتوبر 2025

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لغات الروح المتعانقة

  لغات الروح المتعانقة   "في معنى أن تكونا مرآتين لا مأويين"     يا من تجلت في حضورها البصيرة،   يا نورًا يمشي على هيئ...