الخميس، 4 سبتمبر 2025

إرْثُنا… إلى أين؟

 
إرْثُنا… إلى أين؟

هذا سؤال يلامس عمق وجودنا كشعب. ففلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل هي هوية محفورة في جذع الزيتون العتيق، وطن يتجاوز حدود غزة والضفة الغربية، ويسكن في حبة صَبّار تنمو عند حافة الطريق، وفي رائحة الميرامية التي تُغلى في صباحات الشتات، وفي أثواب مطرزة بخيوط حمراء وزرقاء تروي حكايات القرى البعيدة. 

إنها الأرض التي تُعرِّف أبناءها بالريحان حين يفوح في الساحات، وبالنرجس حين يزهر على سفوح الجبال، وبالبرتقال الذي بقي رمزًا ليافا رغم كل محاولات الطمس. 

مصيبة فقدان الوطن لم تكن حدثًا تاريخيًا مرّ عابرًا؛ بل جرحًا مفتوحًا يلاحق الفلسطيني في كل مكان. في كل مخيم يتنفس الناس هواءً غريبًا، لكنهم يزرعون على شرفاتهم ريحانًا وزعترًا ليظلوا أوفياء لذاكرة المكان وظل شجرة اللوز. 

في الغربة، يتحول المبدع الفلسطيني إلى طائر مهاجر يحمل بين جناحيه عبق الماضي، يغني أغنيات جدته في مدن لا تعرف أسماء قراه، ويزرع على جدران غربته صور القدس وحيفا ويافا، ليصنع وطنًا صغيرًا في قلب المنافي. 

الإرث الثقافي الفلسطيني ــ من عادات وتقاليد وأمثال وأكلات شعبية ــ هو الروح التي لم تهزمها الجدران ولا الحدود. الخُبّيزة التي تنبت بعد المطر تظل رمزًا للفقراء الذين حوّلوا الجوع إلى كرامة. الزيت والزيتون ما زالا هدية القرى لأبنائها في الغربة، مثل رسالة حب تأتي من أم إلى ابنها البعيد. والجُميز ظلّه لا يزال شاهدًا على ألعاب الطفولة، والأمثال الشعبية ما زالت تحفظ حكمة الجدّات التي نُقلت من فم إلى فم كأغنية أبدية. 

لكن هذا الإرث بات اليوم عرضة للنهب والاستغلال والسرقة، في غياب من يحميه أو يوثقه، وتحت وطأة اللجوء والشتات. الأمثال التي وُلدت على ألسنة فلَّاحيّ فلسطين تُردَّد بألسنة أخرى. أكلاتنا الشعبية تُقدَّم في مطابخ غيرنا وكأنها ولدت هناك. التطريز الذي حاكته جدات فلسطين في الليالي الطويلة صار يُعرض في معارض دولية منسوبًا لدول أخرى. إنها خسارة لا تقل فداحة عن خسارة الأرض، لأنها سرقة للذاكرة ولروح المكان. 

نوابغ فلسطين في المنفى يبدعون في صمت، أمناء على قضيتهم مثل حراس الليل، لكنهم محرومون من مظلة مؤسسية واحدة تجمع إنتاجهم وتحميه. هنا يطفو السؤال الموجع: كيف لوزارة إعلام أن تصل إلى هؤلاء المبدعين المنتشرين في شتات العالم؟ كيف تُكافئهم على عطائهم الذي لا يظهر في الوطن، بينما هم في الحقيقة أوفى الناس له؟ 

إنهم أصحاب خبرة وكفاءة، لكنهم يواجهون تحديًا لا يقل خطورة عن الاحتلال: الاغتصاب الثقافي. إنهم مثل أشجار زيتون تُثمر في أراضٍ بعيدة، لكن جذورها تبقى ضاربة في تراب فلسطين.

فكيف لهذا الإبداع أن يجد طريقه إلى الضوء، وشعلة القضية الاستعمارية لأرض الوطن تحتل الصدارة من وعينا وجهدنا وتلتهم كل وقودنا؟ لقد استهلكت قضية الأرض المحقة طاقات الأمة، وسيطرت على معظم تفكيرها، وأزاحت إلى الظل عظماء كادوا يضيئون لولا التهميش. وبينما نحن مشغولون بالنجاة والبقاء، تُنهب ثقافتنا علنًا. 

نرى عناصر تراثنا تظهر في الدراما والإعلام الخاص بالدول المجاورة، منسوبةً إليها دون أدنى إشارة إلى أصلها الفلسطيني. فإما أن يكون ذلك بسوء نية من منتجين يعلمون الحقيقة ويتجاهلونها، وإما بتقاعسٍ رسمي عن التصدي لهذه السرقات بسبب غياب عين الرقيب الحريصة على الأمانة الفكرية والثقافية.

وفي هذا الغياب عن المشهد الرسمي مكّن الآخرين من استغلال الفُرجَة، فخسرنا معركة أخرى دون أن ندري. هذا التجاهل الممنهج لثقافتنا يهدد بفقدان إرثنا الثمين. لقد اندثر الكثير من عاداتنا وقصصنا، وفي غياب من ينصف، يخسر الفلسطينيون المعادلة.

العبء مضاعف على الفلسطيني: أن يحمل همّ الأرض والإنسان، وأن يصون هويته من السرقة. أن يحارب الاحتلال في الداخل، ويصارع النسيان في المهجر؛ لا قوائم تحميه، ولا قوانين تدافع عنه، ولا منصف يرد له اعتباره. إنه إجحاف بحق شعب قُهر وهُجّر وذاق الأمرين، ومع ذلك، ما زال يصمد رغم الجوع والحرب، وينهض رغم غياب المواساة والتعاطف. 

هذا الإرث هو جزء من إرث الأمة العربية، لكن لا يمكننا أن نقبل حالة الفوضى وأعمال السطو المستمرة. ولا بد أن نوقف هذا النزيف الثقافي قبل أن يُمحى ما تَبَقَّى من الذاكرة. 

لكن القضية لا تخص الفلسطيني وحده، إنها مسؤولية كل عربي ومسلم. وعلينا أن نتكاتف ليس فقط لجمع شتات أبناء فلسطين، بل أيضًا لإيقاف سرقة إرثهم الثقافي، والمطالبة بما تم الاستيلاء عليه، لتبقى ثقافتهم وفكرهم ملكًا لهم. ففلسطين ليست مجرد جغرافيا، بل قصيدة طويلة في ديوان الأمة. 

حماية الإرث الفلسطيني مسؤولية جماعية تبدأ بالتوثيق: بكتابة الحكايا، وحفظ الأمثال، ثم التوعية بمصادر هذا التراث، حتى تصل إلى المطالبة الرسمية والشعبية باستعادته ونسبته لأصحابه الحقيقيين، وإعادة الاعتبار للبرتقال والزعتر والخُبّيزة. إنها مسؤولية أن نرفع أصواتنا في وجه كل محاولات السلب: هذه المطرزة فلسطينية، وهذا الطبق من غزة، وهذه الأغنية من جبال الجليل. 

إنها معركة وجودية ضد المحو. معركة من أجل أن يظل الإرث الثقافي الفلسطيني هو الهوية التي يحملها الشعب أينما حلّ وارتحل. وأن يبقى الزيتون زيتونًا فلسطينيًا، وأن يظل البرتقال برتقال يافا، وأن تظل الميرامية والريحان والورد والنرجس جزءًا من هوية لا تقبل الإقصاء. معركة من أجل أن تبقى فلسطين، بذاكرتها، بكرمها وشهامة أبنائها ودفء جيرانها، على قيد الحياة. فلسطين وطن يحيا في الذاكرة والخيال، وحكايا أبدية لا تنطفئ. 

فلسطين ليست غائبة، إنها تسكن في وجدان أبنائها حيثما كانوا. في كوب شاي بالميرامية في مساء بارد، في قطعة خبز بالزيت والزعتر تُشارك بين الجيران، في أغنية عتيقة تصدح في الأعراس، وفي زهر الليمون الذي يظل برائحته يذكّرنا بأن الوطن لا يموت. 


جهاد غريب 
سبتمبر 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إرْثُنا… إلى أين؟

  إرْثُنا… إلى أين؟ هذا سؤال يلامس عمق وجودنا كشعب. ففلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل هي هوية محفورة في جذع الزيتون العتيق، وطن يتجاوز حدود غز...