السبت، 2 أغسطس 2025

في حنايا الروح: كرامةٌ تُنْتزع، لا تُوهب.. ووطنٌ اسمُه الصُّمود!

 
في حنايا الروح: كرامةٌ تُنْتزع، لا تُوهب.. ووطنٌ اسمُه الصُّمود! 

"للفلسطينيّ وطنٌ محفورٌ في الذاكرة، لا تمحوه القذائف"

لا تكفُّ العين عن التحديق في ذلك البُعد المُثقَل بالغيوم والدُّخان، حيث تُختَزَل الجغرافيا إلى جرحٍ نازفٍ، وتُختَصَر العدالة إلى صمتٍ مُطْبِقٍ يجلجل في ضمير الكون. هناك، في قلب العاصفة الدائمة، يقف الإنسان الفلسطينيُّ – أبيًّا كزيتون أرضه، صلبًا كصخر جباله – ليس كضحيّةٍ مُستسلمةٍ فحسب، بل كرمزٍ حيٍّ للصُّمود الذي يخترق جدار اليأس. 

التضامن معه ليس مجرد كلماتٍ تُلقى على منصات، بل هو نبضٌ ينبثق من أعماق الضمير الإنسانيّ، تعاطفٌ مع ذلك الكائن الذي حوّلته الجغرافيا المجنونةُ إلى سفّاحٍ لأحلامه في كلّ صباح، يُعيد دفنَ الأمل تحت أنقاض بيته ليلًا، ثمّ يحفرُه مرّةً أخرى عند الفجر، كأنّما يلدُ نفسه من جديدٍ في كلّ شروقٍ مُثقَلٍ بالرصاص. يحمل فوق أكتافه، ضريبة اللجوء الأبدية، ثقلًا لا يخفّ مع السنين، بل يتعاظم كصدأٍ ينهش الحلم.

تتجلَّى ويلات التناقضات الجغرافية في كلّ نبضةٍ من حياته. فهو يحمل في صدره حُبًّا جامحًا لوطنٍ تتناوشه النيران، تُحاصره الجرافات، وتُغيِّر معالم روحه فوق أرضه. تراه يتنفَّس هواءً مشبعًا برائحة التراب الذي يشتاق إليه، بينما يقف، في الآن ذاته، على أرضٍ أخرى. 

أرضٍ ربّما منحته جنسيةً، أو سقفًا، أو لقمة عيش، احتضنت جسده المُنهَك، لكنّها – في صميم وجدانها – لم تمنحه ولن تمنحه أبدًا ذلك التضامن الجوهريّ مع جرحه الوجوديّ. تُعامله كنزيلٍ مؤقّتٍ على حُزنِه، كأنّ جرحَه تذكرةُ سفرٍ لا تُجدَّدُ إلّا في معابر الألم، بينما صمتُها المُطبق على عدالة قضيته – أو ذلك الأسوأ من الصمت – جعل جذورَه فيها معلّقةً في فراغٍ، لا تلامس تُرابَ التضامن الحقيقيّ. 

هذه المفارقة المؤلمة للوطنين: أرضٌ تدمّرها القذائف وهي جذوره التي لا تنقطع، وأرضٌ ثانيةٌ قدَّمت له أمانًا ماديًّا ظاهريًّا، لكنّها لم تُسهم في رفع الظلم، ولم تُقدّم العدالةَ التي يتوق إليها كحاجةٍ أنفسَ من الهواء. يعيش فيها بجسده، لكنّ روحه تُعلَّق بين سماءٍ لا تحميها، وترابٍ يُغتصب يوميًّا، في اغترابٍ مضاعفٍ: عن أرضه المغتصبة، وعن أرضٍ رفضت أن تُشاركه وجعَه الجوهريّ.

وتلك ضريبة اللجوء الأبدية.. ليست مجرّد وثائقَ أو مخيّمات. إنّها ثقلٌ روحيٌّ لا يُقاس، يجعل من كيانه منفىً متجوّلًا، حتى وهو بين جدران بيته الجديد. يحمل سجنًا غير مرئيٍّ من الحنين والغضب المكبوت، وحوارًا داخليًّا لا ينتهي مع أشباح الماضي، وخريطةً للوطن محفورةً على جلده لا تُطابق أيّ خريطةٍ في العالم. 

ثقل الذاكرة التي تحمل رائحة بيوتٍ هُدّمت، وأشجارٍ اقتُلعت، وأحبّةٍ رحلوا تحت القصف أو خلف القضبان. ثقل السؤال الذي يطارده كشبح: "من أنا؟". هذا التساؤل عن الهوية ليس فضولًا عابرًا، بل هو دهشةٌ وجوديةٌ تزلزل كيانه. 

هل هو ابن تلك الأرض البعيدة المنكوبة فقط؟ أم هو أيضًا جزءٌ من هذه الأرض التي يعيش عليها الآن؟ وكيف يكون جزءًا من مكانٍ لم يُشركْه قلبُه في حُزنه على وطنه الأمّ؟ كيف يُعرّف نفسه في عالمٍ يصرّ على تصنيفه بـ"لاجئ"، "مهاجر"، "غريب"، بينما هو يحمل في داخله إرثًا من الحبّ والمقاومة والانتماء الذي يتحدّى كلّ التصنيفات؟ إنّ الشكّ في الهُويّة هو أحد أثقل فصول ضريبة اللجوء التي لا تنتهي.

لكنّ الفلسطينيّ، في خضمّ هذا العاصف، لا يطلب الشفقة. إنّه، قبل كلّ شيء، رمزٌ للصُّمود. صمودٌ أمام آلة الدمار التي تستهدف حجره وبَشَره وذاكرته. صمودٌ في التشبث بحقٍّ لا يُبلى مع الزمن. صمودٌ في الحفاظ على إنسانيته وهي تُستفزّ يوميًّا. إنّه يُحطّمُ محاولاتِ طمسِ هويّتِه، يُعيدُ كتابةَ تاريخِه بدمِهِ، وينحتُ كرامتَه في صخرِ الزمنِ. 

هذا الصُّمود... ليس سرديّةً فلسطينيّةً فحسب، بل هو إرثٌ كونيٌّ يُذكّر كلّ مقهورٍ على هذه الأرض بأنّ بذرةَ الحياة في وجه الموت أقوى من كلّ دبّابة، وأنّ الإنسان، حتّى وهو يُحاصَر، يظلّ قادرًا على أن يكون نُقطة ضوءٍ تُحدّق في عتمة الطغيان، وتُخلّد اسمَه في كتاب الكرامة الأزليّ. 

وهنا تكمن الحقيقة الكبرى التي تهزّ عروش الظالمين: العِزّة تُنتزع لا تُوهَب، والكرامة تُكْتَسَبُ بالمكابدة لا تُمنح بالإحسان. هذا هو القانونُ الأزليُّ: لا كرامةَ تحتَ نِعلِ الظالم. لا تنتظر من جلادك أن يمنحك إياها، ولا من صامتٍ على الظلم أن يقدّمها لك على طبق. إنّها تُبنى لَحظةً بلَحظة، عبر الثبات على المبدأ، رغم الجراح، رغم الغُربة، رغم الصمت المُحيط. 

كلّ يومٍ يرفض فيه الخنوع، كلّ حجرٍ يُلقى دفاعًا عن حيِّه، كلّ كلمة حقٍّ تُقال، كلّ ذكرى تُحفَظ وتُورَّث، هي لَبِنةٌ في صرح كرامته التي ينتزعها انتزاعًا من براثن اليأس والقهر. هذه الكرامة المُنتزَعة هي سلاحه الأقوى، ودرعه الذي يحمي جوهر إنسانيته من التشويه.

ومن هذا المنظور المتأمّل، يطفو السؤال الفلسفيّ المحوريّ: أين الوطن حقًّا؟ هل هو تلك البقعة الجغرافية المُحاصَرة، المُهدَّدة، المُغتَصَبة؟ أم هو شيءٌ آخر، أعمق، وأبقى؟ عندما تُسلَب الأرض، عندما يُشرَّد الإنسان، عندما يُحاصَر الحلم.. ماذا يبقى؟ يتألّقُ الوطنُ الحقيقيُّ: الكرامةُ المتجذِّرة في الروح، والصُّمودُ الذي يُشيِّدُه الإنسانُ بإرادته. 

فالكرامة المتجذّرة ليست مجرد ردّة فعل، بل هي خلقٌ مستمرٌّ للوجود. كلّ رفضٍ للخنوع، كلّ تمسّكٍ بالذاكرة، كلّ بصمة جمالٍ تُزرع في وجه القبح... هي طقوس تأسيس لهذا الوطن الروحيّ. إنّه الوطن الذي يُبنى بفعل الإرادة حين تنهار الحجارة، ويُحفر عميقًا في صخر اليأس بظُفر التحدّي.  

هذا هو الوطن البديل، بل الوطن الأصيل، لكلِّ من فقد أرضه تحت وطأة الاحتلال، ولكلِّ من يُسمّى "لاجئًا" أو "مهاجرًا" ويعيش في المنافي القسرية أو الاختيارية. فالكرامةُ – التي لا تُستلَب إلا باستسلام صاحبها – هي البوصلة الداخلية التي لا تضلّ، والنار التي لا تنطفئ في الصدر، والأرض التي لا تُهدم. 

الوطن هو حيث تُحترم إنسانيتك، حيث تنتزع كرامتك، حيث ترفض أن تكون رقمًا في سجلّات الظلم. إنّه الفضاء الداخليّ الواسع الذي يحمل تراب الأجداد، ونبض الحريّة، وإرادة الحياة التي لا تُقهَر. الوطن الحقيقيّ هو تلك الكرامة التي تُحمل في العينين، في الوقفة، في رفض الانكسار، حتّى ولو كان المرء في أقصى زوايا الشتات. 

ولذا، فإنّ التضامن الحقيقيّ ليس وقفةَ عطفٍ عابرةً، بل هو إعلانُ ولاءٍ لهذا الوطنِ الروحيّ الذي يحمله الفلسطينيُّ في صدره: وطنِ الكرامةِ المُنتزَعة. إنّه الاعتراف بأنّ صموده ذلك هو نصرٌ للإنسانية في أقدس معانيها، وأنّهم يُذكّروننا، بدمهم وصمودهم، بأنّ الكرامة وطنٌ لا يُهزم، وأنّ جرأته على انتزاع العزّة من بين أنياب الدمار – وحمْلَ وطنه في عينيه رغم التشريدِ – هي شعلةٌ تُضيء دربَ كلّ حُرٍّ يتوق إلى عالمٍ لا يُباع فيه الضمير، ولا يُساوم على الحقّ. 

فهذه الكرامةُ – الوطنُ – هي القصيدةُ التي لا تُحرق، والوعدُ الذي لا ينكسر، والحياةُ ذاتُها التي تُنتزعُ انتزاعًا، حتّى لو تقلّبتْ تحت أقدامِه الجغرافيا، وظلّتْ عدالةُ الأرضِ صامتةً، تَرقبُ جرحًا ينزفُ في ضمير الزمن.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...