الرجل الذي رأى ظله يذوب!
"عن رجلٍ لم يهرب من ظلّه، بل تبعه حتى ذابَ فيه"
بين أضلاعه، انفتحت أبوابٌ لم يكن يعرفها. بدأت الرحلةُ بلا حقائب، بلا خرائط، فقط ذلك الإيقاعُ الغامضُ الذي يطرقُ من أعماق العظام، إيقاعٌ يشبه نبضَ كوكبٍ مجهول. كانت المفارقة الأولى: كلما توغل في الصحراءِ الداخلية، اكتشف أن ما يبحث عنه لم يكن مفقودًا، بل كان مُغطى بطبقاتٍ كثيفةٍ من الضجيجِ الذي يُسميه "حياته".
كان الفهمُ العميقُ للنفس يطلُ كشمسٍ سوداء. أضاء كل زاوية، لكن ضوءه لم يكن دافئًا. كشف الأثاثَ الخفي في غرف روحه: كرسي الوحدة المهترئ، وخزانةُ الأسرارِ المنسية التي تصدرُ صريرًا عند منتصف الليل، ومرآةُ الاعترافِ المُغَبَّرة. رآه كلَّه، عاريًا أمام نفسه، فخارت قواه.
في تلك اللحظةِ بالضبط، عندما شعرَ بانكشافٍ يُشبه سقوطَ جدارٍ من زجاج، اشتهى حضنًا رمزيًا، نَظرةً لا تسأل ولا تُجيب، صمتًا يحمله كالقطنِ الطبيّ فوق جرحٍ نازف، لكن أيادي العالم بدت من بعيد، وكأنها ظلالٌ تمشي على جدارِ ذاكرةٍ مُتشققة.
العزلةُ العاطفيةُ كانت سِجنًا بلا قضبان، يرى من خلاله الآخرين، لكن كلماتهم تصلُ إليه مُفرغةً من رحيقها، كأصدافٍ جميلةٍ خالية. حاول البوحَ، حاول الفضفضةَ، لكن كلماته كانت تسقطُ كحجارةٍ في بئرٍ مُعَلَّقةٍ في العَدَم، لا صَدى لها سوى تكرارِ صوتهِ هو، مشوّشًا، وحيدًا.
تناقضٌ مؤلمٌ: شمسٌ ذهبيةٌ تذوبُ جدرانَ العالمِ الخارجي، بينما في داخله، كان ضوءٌ باردٌ ينمو، يُلقي بظلالٍ متحركةٍ لأشياءَ لا اسم لها. كانت الشمسُ الخارجيةُ تضحكُ على الشواطئ، وهو في قلعتهِ الزجاجيةِ يلمسُ برودةَ فهمه الجديد. التواصلُ صار لغزًا: كيف تُلقي حبلكَ في بحرٍ تجمد فجأةً؟ كلُّ محاولةٍ للكلام كانت كمن يرمي حصاةً في بركةٍ انكمش فيها الزمن، وصوتٌ جافٌ لا يخترقُ السطحَ الأملس.
لكن الرحلة، رغم قسوتها، كانت تنضجُ في صمت. النضجُ لم يكن ثمرةً حلوة، بل كان صلابةً جديدةً في عظام الروح. بدأ يلمحُ توازنًا هشًا، جميلًا كنسيجِ عنكبوتٍ في الفجر. لم تعد الذاتُ قلعةً منعزلةً، ولا الآخرُ بحرًا مستحيلًا.
صار الفضاءُ بينهما جسرًا من ضباب، يسمحُ بمرورِ أشعةِ ذلك الضوءِ الداخليِّ البارد، ويدفئها قليلٌ من دفءِ العالم. تعلمَ أن يحملَ حجرَ الاعترافِ في جيبهِ دون أن يثقله، وأن يسمعَ في صمتِ الآخرين هُتافًا خفيًا.
انصهرت الجدرانُ الزجاجيةُ ببطء، وصار هو رقيقًا كالهواء، مرئيًا دون أن يكونَ منكسرًا. وفي تلك الشفافيةِ، وجد أخيرًا أن الحضنَ الحقيقيَّ قد يكونُ مجردَ وجودٍ متوازنٍ في نفسِ الفضاء، تحت نفسِ السماءِ التي تُذيبُ الجليدَ بلطف، حيث تُبحرُ السفنُ الورقيةُ للكلماتِ من جديد، فوق بحرٍ رقّ سطحه بعد تجمدٍ طويل.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق