رحلة الروح: بين الفهم والغموض في مسار التأمل الإيماني!
بينما يغوص الإنسان في أعماق التفكير بأسرار
الوجود، يجد نفسه أمام تحدٍ لا يمكن تجاوزه فقط بالمعلومات المكتسبة، أو المشاهدة الملموسة،
بل يترك لروحه وعقله مجالاً للنظر والتأمل.
ففي هذا الكون الفسيح، هناك مفاهيم تبقى
أعلى من مستوى الإدراك، فتظل في عظمة قدسيتها وسرها المهيب، ومن هذه الغيبيات المبهمة،
تبرز الروح التي لو أخضعناها لكل المنهجيات العقلية والمفاهيم الفلسفية، لما
استطعنا الوصول إلى كنهها.
الروح، ذلك السر الغامض الذي يعجز البشر
عن فهمه تماماً، وبالرغم من إمكانات العقل المذهلة! إلا أن في هذه الحالة يقف
عاجزاً ومحدوداً، ولو تمكن البشر من ذلك، لما خصها الله سبحانه لنفسه.
إن هذا الغموض الذي يكتنف الروح ليس نقصاً،
بل هو تجسيد لعظمة خلق الله وكماله، وهو الذي يجعلنا ندرك محدودية عقولنا البشرية.
أمرنا الله سبحانه، بالتسليم والتصديق
بما يتعلق بالروح، قائلاً في محكم كتابه: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلًا". الآية، فهناك ستار مهيب من الغموض يحجب هذه الهبة الإلهية، مما يعكس
قصور العقل البشري عن الإحاطة بكل العلوم والمعارف.
قال الفيلسوف سقراط: "كلما أدركت
أكثر، أدركت أنني لا أعرف شيئاً"، فإن الروح تظل في هذا الحيز من الجهل المقدس.
حين نتأمل في الروح، ندرك أنها تتجاوز
حدود الإدراك المادي والتصورات الحسية، فهي الصلة المباشرة بين الإنسان وخالقه، وهذا
العمق الغيبي يجعلنا ندرك أن هناك أشياء في الكون لا يمكن فهمها وإدراكها، إلا بتسليم
القلب والتفكر الإيماني، ويجعلنا نتأمل في قدرة الله وعظمته.
قال جلال الدين الرومي: "إن الروح
هي التي تجعلنا نسعى إلى السماء بينما أقدامنا مغروسة في الأرض"، فإنها تدفعنا
للسعي نحو العلا بينما نحن ما زلنا نسكن في هذا العالم الفاني.
وللتأكيد أقول: الغموض المحيط بالروح ليس
نقصاً، بل هو مصدر للجمال والتأمل، فالأشياء التي لا نفهمها بالكامل هي التي تدفعنا
للبحث والتساؤل، وتمنحنا شعوراً بالرهبة والتقدير لخلق الله العظيم.
قال الفيلسوف أفلاطون: "في الغموض
تكمن الحقيقة، وفي الصمت تجد الروح نفسها"، لذا فإن الروح تجد راحتها في هذا الغموض،
وتحقق كمالها في الصمت والتأمل.
النصوص القرآنية تدعونا للتدبر والتأمل،
لكنها في الوقت نفسه تضع لنا معالم واضحة تضبط هذه الرحلة الروحية بموازين التسليم
والقناعة، فكل شعور بالغموض يخفي جمال الفهم والتأمل!
قال الشاعر: "وفي سرائرها يسكن الجمال،
وفي كنه السكوت يتجلى الحق".
وبذلك يظل الإنسان في رحلته مع الروح،
بين الفهم والغموض، ويبحث عن التوازن الذي يمنحه السكون والإيمان، وينير له طريق التسامي
والتقرب إلى الله.
إن هذه الرحلة الروحية تذكرنا دوماً بأن
هناك في هذا الكون أسرار لا يمكن إدراكها إلا بالتسليم والتفكر الإيماني العميق، وهذا
هو سر الجمال في الغموض.
جهاد غريب
يناير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق