الأربعاء، 8 يناير 2025

 

فن الصمت: القوة الخفية في لغة بلا كلمات!

 

الصمت، ذاك الحضور الغائب الذي يُعبِّر عن مشاعر أعمق مما تستطيع الكلمات صياغته، هو أداة ليست متاحة للجميع، ففي كثير من الأحيان، يُخطئ البعض بين الصمت الذي يعكس العجز، والصمت الذي يتجلى كفن من فنون التعبير عن القوة، الصمت في الحالة الأولى محاط بالخوف، ومُثقل بشعورٍ بالعجز عن مواجهة العالم، أو حتى مواجهة الذات، بينما في الحالة الثانية فهو اختيارٌ واعٍ، ينم عن إدراكٍ عميق لمعنى الحكمة.

 

في لحظة العجز، يجد الإنسان نفسه أسيراً بين جدران خوفه، فلا يستطيع التعبير عن غضبه، أو حزنه، أو حتى فرحه، وكأنما الكلمات أصبحت سلاسل تقيده، بدلاً من أن تكون أجنحة تحرره!

يقول جبران خليل جبران: "الكلام كالنور، بعضه يُضيء القلب، وبعضه يُحرقه"، وهنا تكمن المفارقة، إذ إن التحدث بلا وعي! قد يفضي إلى نتائج مدمرة، بينما قد يُنقذ الصمت الحكيم صاحبه من الوقوع في فخ التسرع.

 

لكن، الصمت ليس دائماً هروباً، بل هو أحياناً سلاح يُشهره الأذكياء في مواجهة الفوضى، إنه وسيلة لإعادة ضبط المشاعر، لتحليل الواقع، ولإيجاد توازن بين ما يحدث في الداخل والخارج.

إن القدرة على اختيار الصمت في اللحظات التي تغلي فيها الأرواح هو بمثابة إعلان للسيطرة على الذات، فكما قال نيلسون مانديلا: "الشجعان ليسوا أولئك الذين لا يشعرون بالخوف، بل الذين يتغلبون عليه"، والصمت هنا هو صورة من صور الشجاعة.

 

الصمت كفن يتطلب مهارة وإدراكاً!، واختيار الصمت أحياناً قد يكون أعظم أشكال الكلام، فهو تعبير عن احترام الذات واحترام الآخر، وهو قرار مدروس للترفع عن الانجرار في نقاشات عقيمة، أو مشاحنات لا طائل منها. وكما يقال: "الصمت في بعض المواقف إجابة بليغة لا تحتاج إلى ترجمة"، إنه تعبير عن الثقة بالنفس، عن الإيمان بأن الكلمة التي لم تُقال تملك من القوة أكثر مما يُقال.

 

عندما نتحدث عن الصمت كفن، فإننا نتحدث أيضاً عن علاقة عميقة مع الزمن، فالصمت يمنحنا فرصة للتفكير، ولتأمل القرارات، ولإعادة تقييم الحياة، إنه كما وصفه إميل سيوران: "الصمت هو لغة العظماء"، فهو مساحة للانفصال عن ضجيج العالم، وللدخول في حوار هادئ مع الذات.

 

الصمت لا يعني بالضرورة الانعزال، أو الانغلاق، بل يمكن أن يكون وسيلة للتواصل بشكل أعمق، إنه لغة عالمية لا تحتاج إلى ترجمة، تُفهم بالنظرات والإيماءات، وتُشعر الآخر بأنك حاضر بكامل كيانك، والصمت هنا يصبح فناً راقياً يعبر عن الوعي والحساسية.

 

في المقابل، يجب أن نكون واعين بالفرق بين الصمت كفن والصمت كعجز، فالصمت الذي ينبع من الخوف، أو الشعور بالنقص هو صمتٌ يُثقل الروح، ويجعلها تئن تحت وطأة الكلمات التي لم تُقل، إنه صمت مؤلم، يترك فراغاً في القلب ويخلق حاجزاً بين الإنسان وعالمه، أما الصمت الواعي فهو عكس ذلك تماماً، هو صمت ممتلئ بالحكمة والقوة.

 

وفي النهاية، يمكننا القول إن القدرة على التعبير عن المشاعر هي مهارة تحتاج إلى تدريب، ولكن القدرة على الصمت في اللحظة المناسبة هي فن يحتاج إلى وعي، والصمت ليس دائماً علامة ضعف، بل هو أحياناً قمة القوة، إنه خيار العقول الراجحة والنفوس الهادئة، وهو كما يقول أحد الحكماء: "الصمت هو الصديق الوحيد الذي لن يخونك أبداً".

 

جهاد غريب

يناير 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أطياف الوجود: حين ننسى وجوهنا في متحف الضياع!

  أطياف الوجود: حين ننسى وجوهنا في متحف الضياع! "كلما اقتربنا من المرايا، انحرفت وجوهنا إلى ظلال... فهل كنا نحن؟ أم مجرد أطيافٍ تحلم أن...