الأربعاء، 8 يناير 2025

 

الوضوح المخادع: بين نور الحقيقة وظلال الغموض!

 

قد يبدو الوضوح في ظاهر الأمر فضيلةً لا غبار عليها، تلك الصفة التي تبعث على الاطمئنان، وتزيل الالتباس، لكن، ماذا لو كان الوضوح المفرط أشبه بنورٍ كاشف يسلط الضوء على زوايا لا نرغب في رؤيتها؟ وماذا لو فضح ذلك النور خبايا النفس، وتفاصيل الحياة! التي نحاول بشتى الطرق أن نتجاوزها أو نتجاهلها؟ هكذا، يتحول الوضوح إلى مرآة قاسية تعكس ما كنا نفضل أن يظل في الظل، بعيداً عن أعيننا، وأعين الآخرين.

 

إن الأشياء التي تبدو واضحة، لا تكون دائماً كما تبدو، فالوضوح قد يكون مجرد غطاء شفاف! يخفي تحت سطحه بحوراً من التعقيد، والمشاعر المتناقضة! كم من مرة خُدعنا ببساطة ما هو واضح، واكتشفنا لاحقاً أن الحقيقة كانت أكثر عمقاً وتشابكاً مما تخيلنا؟ يقول نيتشه: "ما من شيء أوضح من الوهم"، وهذا القول يحمل في طياته دعوة للتأمل في حقيقة ما نراه وما نفهمه.

 

الوضوح ليس كالشفافية، رغم ما قد يبدو عليهما من تشابه، فالشفافية هي استعدادٌ للاعتراف بكل شيء، هي الصدق المفرط مع الذات ومع الآخرين، لا تخفي شيئاً ولا تخشى شيئاً، أما الوضوح، فقد يكون مخادعاً! فهو الصورة التي تُعرض أمامنا بعناية، لتبدو مفهومة وسهلة، لكنه لا يلزم أن يعكس كل الحقائق أو يُظهر كل ما تحت السطح، ربما لهذا السبب، يُقال إن "الحقيقة الكاملة نادراً ما تكون واضحة، ونادراً ما تكون شفافة".

 

إن النفس البشرية بطبيعتها تخشى مواجهة الوضوح الكامل، قد يكون ذلك لأنه يُجبرها على النظر في عيوبها، أو في تفاصيل الحياة التي اختارت التعايش معها، بدلاً من معالجتها، لكن هناك جمال في هذا التناقض!، قال جبران خليل جبران: "إننا نعيش لنكتشف الجمال، وكل ما سواه هو شكل من أشكال الانتظار"، وربما يكون الوضوح، بكل قسوته، دعوةً لاكتشاف جمال الحقيقة، مهما كانت مؤلمة، أو غير مريحة.

 

قد تتساءل، لماذا إذن نبحث عن الوضوح؟ ببساطة: لأنه يمنحنا الأمان، فهو الضوء الذي يرشدنا وسط ظلام الحيرة، وهو البوصلة التي تُعيدنا إلى الطريق الصحيح، ولكن! يجب أن نتذكر أن الضوء يمكن أن يعمينا أحياناً إذا كان ساطعاً أكثر مما ينبغي، وربما يكون الحل في قبول التوازن بين الوضوح والغموض، وبين ما نعرفه وما نختار أن نجهله، فالحياة، في جوهرها، ليست مطلقة الوضوح، ولا مطلقة الغموض، بل هي مزيجٌ ساحر من الاثنين.

 

في كل جانب من حياتنا، يظهر الوضوح بأشكال مختلفة، فقد نطلب الوضوح في علاقتنا بالآخرين، والسؤال: هل نحن مستعدون دائماً لتحمل نتائجه؟ قد يكون الجواب واضحاً لكنه مؤلم، فقد نبحث عن وضوح الرؤية في مسيرتنا المهنية، لكننا قد نجد أنفسنا أمام خيارات صعبة لا يمكن تبسيطها، وحتى في أعماقنا، عندما نحاول أن نفهم أنفسنا بشكل أوضح!، نجد أن الوضوح ليس سوى بداية لرحلة طويلة نحو تقبل التعقيد والتناقض.

 

الوضوح أشبه بمرآةٍ مزدوجة الوجهين، تعكس الحقيقة بقدر ما تخفي عمقها، وهو النور والظلام في آنٍ واحد، لذلك، ربما يكون السر في التعايش معه هو عدم الانجراف وراء وهم أن كل شيء يمكن أن يكون واضحاً. يقول سارتر: "الإنسان محكومٌ بالحرية"، وهذه الحرية تحمل معها مسؤولية مواجهة الوضوح حين يظهر، وقبول الغموض حين يفرض نفسه.

 

في النهاية، ربما يكون الوضوح المفرط انعكاساً لرغبتنا في السيطرة على ما حولنا، لكن الحياة ليست مرآة نظيفة! تعكس كل شيء بوضوح، بل هي لوحة فنية مليئة بالظلال والتدرجات، لذا، علينا أن نتعلم أن نستمتع بهذه اللوحة كما هي، وبوضوحها وغموضها، ونتذكر أن الجمال يكمن أحياناً في تلك الزوايا غير المرئية.

 

جهاد غريب

يناير 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من خطواتهم نعرفهم!

  من خطواتهم نعرفهم! هل تأملت يومًا كيف تخبرنا الخطوات بما لا تقوله الشفاه؟ في زحام الأرصفة، تحت ظلال المباني التي تحجب الشمس وتتركنا لأنفسن...