أعماق الروح في حضرة الذكرى.. وأيامنا الجميلة بين يدي الزمن!
حين تهمس الذكريات في
أعماق الروح، يتحول الزمن إلى نهر جارٍ ينساب بين دفتي الماضي والحاضر، يجرف معه كل
ما كان جميلاً وموجعاً على حد سواء.
لقد تمنيت لو أعيش العمر
كله بجانبك، لكن الحياة، تلك المعلمة القاسية، قادتني إلى دروب الفراق، وما أشد قسوة
هذه الدروب حينما نفترق ليس اختياراً، بل انصياعاً لأحكام الله التي تظل دائماً أسمى
وأقدس.
هل تذكر تلك اللحظات التي
كنا نعيشها معاً؟ كانت كل لحظة تمر! تحمل في طياتها جمالا لا يُضاهى، فالأيام التي
كنا فيها معاً كانت أزمنة من السحر والفرح، والآن أصبحت تلك الذكريات كمرساة تثبتنا
وسط أمواج الحياة العاتية.
آه من الحنين، ذاك
الجرح العذب الذي يستوطن الروح!، أحياناً يشبه نغمة موسيقى حزينة، وأحياناً أخرى يشبه
نسمة هواء تحمل عطر الماضي، يُثيره صوت مألوف، أو مشهد عابر، أو حتى شعور مبهم!، هل
هو ألم؟ أم ربما سعادة مؤلمة؟ هو مزيج معقد من المشاعر، يصعب وصفه!، لكنه يبقى شعوراً
نتوق إليه، لأنه يربطنا بمن كنا وبمن أحببنا.
فعلاً، الحنين نهر جاري
في أعماق الروح، يحمل معه ذكريات عذبة ومرارة، ويروي أرضاً جافة عطشى إلى الماضي، هذا
الحنين، يا له من شعور معقد، فهو يحمل في طياته لذة الذكرى ووجع الفراق معاً!،
الذكرى، هذا الشعور الجميل
الذي يعيدنا إلى أجمل الأوقات، له طاقة عجيبة في الحفاظ على الأماني والأحلام حية،
ومن حسن حظنا أن القلب هو مستودع الحنين والمسرة، إذ يبقي الأماني في الذاكرة حية ورطبة،
لا تستدعي سوى الجمال، وهذا القلب الذي يحمل ذكرياتنا بحب، وينتقي أجملها ليبقيها حية،
يزرعها في حديقة الذاكرة لتظل خضراء رغم تعاقب الفصول. قال جبران خليل جبران:
"الذكرى هي امتداد للحياة في عالم آخر". نعم، الذكرى هي حياتنا الثانية،
التي نعود إليها حينما يثقل الحاضر، ونجد فيها ملاذاً وراحة.
في غيابك، شعرت أن العالم
أضحى أقل إشراقاً، وأن الجمال الذي كنت تجلبه إلى حياتي قد أصبح ذكرى، لكن ما أجمل
الذكرى حينما تضيء زوايا القلب المظلمة، وتحوّل الألم إلى حنين يروي أرواحنا العطشى.
قال الشاعر محمود درويش: "الحنين هو مسام القلب التي تفتح كلما مرَّت عليها ريح
الذكرى"، إنها تلك اللحظات الصغيرة التي تعيدنا إلى تفاصيل لم نكن نعي قيمتها
حين كنا نعيشها.
قال جبران خليل جبران:
"الذكريات هي جنة نعذب بها"، وكأن الحنين هو الجسر الذي يصل بيننا وبين تلك
الأيام، وهو البلسمة التي تداوي جروح قلوبنا المتعبة!، في كل لحظة نجد أنفسنا مرغمين،
أو راضين بالعودة إلى تلك الأيام، نستعيد تفاصيلها الدقيقة، وكأن الزمن يتوقف!، والعالم
يختزل في تلك اللحظات.
في كل لحظة نعيشها، نجد
أنفسنا نعود إلى تلك الأيام التي جمعتنا بمن نحب، والزمن يتوقف حينها، ونتأمل كيف أن
الجمال الحقيقي يكمن في التفاصيل البسيطة: ابتسامة، وضحكة، وكلمة صادقة. قال الفيلسوف
هنري ديفيد ثورو: "البهجة ليست في الأشياء، بل فينا"، تلك البهجة التي كنا
نراها في أبسط لحظاتنا معاً.
رغم قسوة الحياة، ورغم
الظروف القاسية التي تفرضها علينا، هناك دائماً جمال يكمن في البساطة، وفي تلك اللحظات
التي لا تُنسى، فقد نجد الجمال في الطبيعة، وفي الفن، وفي العلاقات مع الآخرين، حيث
يمكن لهذه الأشياء البسيطة أن تضفي على حياتنا معنى وجمالاً.
نعم، رغم الألم والفراق،
لا يمكننا إلا أن نزرع الأمل في قلوبنا، فالحياة، تمنحنا لحظات من السعادة، ونحن مدعوون
إلى أن نحتفظ بها في أعماق قلوبنا، لكي تكون لنا ملاذاً في أيام الشقاء، فالحياة
هدية، لكنها مشروطة بأن نحتفظ بها في قلوبنا، وأن نتعلم من تجاربنا!، الألم يعلمنا
قيمة الفرح، والفراق يجعل اللقاء أغلى، والذكرى تُبقي الحب حياً.
حين نواجه الأيام الصعبة،
دعونا نتذكر أن الجمال يختبئ في أشياء قد لا نراها بوضوح، وقد نجده في شروق شمس جديد،
وفي صوت الطيور، وفي لحظة هدوء تسكن أرواحنا، والأمل هو شعاع نور في عتمة الألم، يذكرنا
بأن الفصول تتغير، وأن الحياة تحمل دائماً فرصة جديدة.
إن الإيمان بأن هناك سبباً
إلهياً وراء كل فراق يساعد على تجاوز هذه المحنة، فالإيمان يزرع في قلوبنا الطمأنينة،
ويُمدّنا بالقوة لتحمل الصعاب، والإيمان هو ما يحمينا من الانكسار ويزيدنا قوة وصلابة.
حين نفترق، نظن أن الألم
سيظل رفيقنا الأبدي، لكن الإيمان بحكمة الله يخفف عنَّا هذا الحمل، فكل فراق هو اختبار،
وكل وجع يحمل في طياته درساً، الإيمان يمنحنا القوة لنرى ما وراء الألم، لنفهم أن كل
لقاء وفراق هو جزء من رحلة أوسع، وأن الحياة ليست إلا فسيفساء من لحظات متفرقة، يجمعها
الحب والحنين.
في النهاية، أود أن أوجه
رسالة إلى القارئ العزيز: إن التجربة الإنسانية تحمل في طياتها دروساً قيمة، تعلّم
أن تجد الجمال في الأشياء البسيطة، واحتفظ بالأمل في قلبك، الحياة قد تكون قاسية، ولكنها
أيضاً مليئة بلحظات السعادة!، فقط!، تماسك، وواصل المسير، ففي النهاية ستجد أن الألم
والفراق كانا جزءاً من رحلة حياتك، وسيمنحانك القوة لتكون الشخص الذي أنت عليه اليوم.
إلى كل قارئ يمر بألم
الفراق، تذكر أن الذكرى هي جسر بين الماضي والحاضر، وأن الحب الذي عشته لا يضيع، احمل
ذكرياتك بحب، ولا تخجل من حنينك، وكن قوياً، وامنح نفسك حق الحزن، لكن لا تدع الحزن
يسلب منك بهجة اللحظة. في ثقافتنا لإسلامية ومورثها نعلم: "إن مع العسر يسراً،
وإن بعد الظلمة نوراً"، لذا تمسك بالنور، ودع الحنين يرافقك كصديق، لا كعبء.
أخيراً، دعونا نتعلم أن
الحياة، بكل ما فيها من ألم وفرح، هي رحلة تستحق أن تُعاش بكل تفاصيلها، وأن الذكرى،
رغم مرارتها أحياناً، هي دليل على أن هناك أشياء جميلة عشناها، وستظل حية في قلوبنا
إلى الأبد.
جهاد غريب
يناير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق