الألم: معلم الحياة الأبدي وجسورنا إلى النور، لا
نكتشف أنفسنا إلا في حضنه!
الألم
ذلك الشعور الذي ينحت وجودنا ببطء، يسكب فوق أرواحنا قطرات من نار، ويترك أثره
كالوشم على أجسادنا وأذهاننا!، هو الرفيق الذي لا يدق الباب حين يأتي، وهو الموجة
التي تغمرنا بلا استئذان، ويمكن أن نجده في الحزن العميق، وفي الخسارات التي لا
تعوّض، وفي اللحظات التي تشعر فيها النفس وكأنها تصرخ دون صوت!، لكن، على الرغم من
قسوته، يظل الألم معلم الحياة الأبدي، وجسورنا إلى النور.
حينما
يعصف الألم بنا، لا يقتصر أثره على الجسد فحسب؛ فهو يغرس مخالبه في النفس أيضاً، فالجسد
قد يتعافى بمرور الوقت، أما النفس فتظل تحمل تلك الندوب الخفية التي لا تراها
العين!، هو كالسحابة السوداء التي تحجب نور الشمس، لكنه أيضاً كالفراشة التي تولد
من شرنقة قبيحة لتطير بألوانها الزاهية!، الألم، وإن بدا عبئاً ثقيلاً، قد يحمل في
طياته بذور الشفاء.
من
الممكن تخطي الألم، لكن من الصعب تجاوزه، حيث يظل الألم يترسب في ذاكرتنا كذكريات
مؤلمة تؤثر على مشاعرنا وتصرفاتنا، وتجاوز الألم لا يعني نسيانه، بل يعني التعامل
معه بذكاء، والتعلم منه، وهذا التحدي يتطلب الصبر والتحمل والقوة النفسية، لتحويل
الألم إلى خبرة قيمة تدفعنا نحو الأمام.
يقول
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "ما لا يقتلني يجعلني أقوى"، ومن هذا
المنطلق، إننا نتعلم من الألم كيف نكون أكثر صلابة ومرونة!
لا
نكتشف أنفسنا إلا في حضن الألم، فهو المعلم الذي يقدم دروسه بصبر وديمومة، حينما
يجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، وعقولاً تتدبر وتتفكر، هنا يبلغ عطاؤه ذروته،
فيمنح بلا كلل أو ملل، وينجح حين يصل بتعليمه إلى أعماق الذات البشرية، إذْ يعلمنا
الألم عن حدودنا، وعن قوتنا الكامنة، وعن قدرتنا على الصمود أمام التحديات، ومن
خلال توجيهه، ندرك أن الألم ليس نهاية، بل دعوة لإعادة ترتيب أولوياتنا، لا لنرمم
ما انكسر وحسب، بل لنكتشف في الكسر بذرة بداية جديدة ومشرقة.
من
جهة أخرى، الألم ليس مجرد معلم، بل هو أيضاً محفز للإبداع، فكثير من الشعراء
والفنانين أبدعوا من رحم المعاناة!، كيف يمكن أن نفسر هذا؟ ربما لأن الألم يجعل
التجربة الإنسانية أكثر عمقاً، ويجعلنا أكثر اتصالاً بذواتنا. قال الكاتب الأمريكي
إرنست همنغواي: "العالم يكسر الجميع، وبعد ذلك يصبح البعض أقوياء في الأماكن
المكسورة"، هكذا، يصبح الألم وقوداً يحرك عجلة الإبداع، ويحوّل ما كان مصدراً
للمعاناة إلى لوحة نابضة بالحياة.
الألم
لا يؤثر فقط على الفرد، بل ينعكس أيضاً على العلاقات الإنسانية، إذْ يمكن أن
يقربنا من أحبائنا حينما نجد فيهم العزاء، أو يبعدنا حينما يطغى الصمت على
محادثاتنا، وهو الاختبار الذي يكشف عمق الصداقات وصدق المشاعر. يقول الروائي
الفرنسي مارسيل بروست: "الألم يعيدنا إلى أنفسنا، لكنه أيضاً يعيدنا إلى
الآخرين، يجعلنا أكثر تعاطفاً وأكثر فهماً لآلامهم."
بالنسبة
للبعض، يصبح الألم تجربة روحانية، فقد يدفعهم إلى البحث عن معنى أعمق للحياة، أو
يقربهم من إيمانهم!، علاوة على ذلك، الألم يذكرنا بضعفنا الإنساني، ولكنه أيضاً
يفتح لنا نافذة نحو الأبدية، ونحو التفكير في معنى وجودنا. قال الفيلسوف جلال
الدين الرومي: "الجروح هي المكان الذي يدخل منه النور."
وفي
وصف الألم فهو كالخنجر الذي يخترق الجسد، وكالصوت الذي يصرخ في الصمت!، وهو الألوان
الداكنة التي تملأ اللوحة، والإحساس الذي لا نراه، لكنه يتسلل إلى أعماقنا!، ونلمسه
في العيون التي فقدت بريقها، وفي الأيدي التي ترتعش تحت وطأة الذكرى.
ولكن،
كيف يمكننا التعامل مع الألم؟ لا شك أنه ليس من السهل تجاوزه، لكنه يمكن أن يصبح
جزءًا من قصتنا، فالتقبل هو الخطوة الأولى، إذ نعترف بأن الألم جزء لا يتجزأ من
الحياة، وقد يكون الصبر والتحمل هما المفتاح، لكن الذكاء يكمن في استيعاب دروس
الألم والتعلم منه، ومن خلال التعبير عن مشاعرنا، سواء بالكلام أو الكتابة، نستطيع
تحويله إلى تجربة تحمل معنى أعمق، كما أن طلب الدعم من الأصدقاء أو اللجوء إلى
مختصين قد يكون وسيلة فعّالة لتخفيف وطأته والمضي قدماً.
في
النهاية، الألم ليس عدواً يجب أن نهرب منه، بل رفيق رحلة يجب أن نتعلم منه، فهو
جزء من نسيج حياتنا، وقد يكون القوس الذي يقذفنا نحو مستقبل أكثر إشراقاً، فكل جرح
نحمله هو شهادة على صمودنا، وكل دمعة نذرفها هي خطوة نحو الشفاء. قال جبران خليل
جبران في كتابه (النبي): "إنما فرحكم هو حزْنكم الذي انكشف، والبئر التي تنبع
فرحكم كانت بالأمس مملوءة دموعاً"، مقولة جبران تؤكدها الفكرة الشائعة في
العديد من الثقافات والأديان: "إنك حين تكون فرحاً، انظر في أعماق قلبك،
وستجد أن الفرح الذي تعيشه الآن! كان يوماً ما مصدر ألم".
هكذا،
يظل الألم هو الجسر الذي نعبر من خلاله إلى النور، والمعلم الذي يفتح لنا أبواب
الحكمة والتغيير."
جهاد غريب
يناير 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق