الخميس، 23 يناير 2025

 

غرس القيم في حدائق الزمن: رحلة الأبوة والأجيال!

 

في بعض الأحيان، آخذ أولادي لزيارة الجيران والأقارب وزملاء العمل، ليس فقط للاجتماع حول مائدة الطعام، بل لنشارك في الأحاديث التي تدور بين الرجال وتتعلق بالعادات والتقاليد، تلك اللحظات تحمل في طياتها كنوزاً من الحِكَمِ والقيم التي تُنقل بروح الألفة والمحبة. قال جبران خليل جبران: "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة".

 

تلك المجالس تُثري نفوس أبنائي، حيث يتعلمون احترام الآخرين وتقدير القيم الاجتماعية، يجلسون بين الكبار، ويراقبون طرق التحية الخاصة والابتسامات الصادقة، ويلتقطون بعيونهم البريقة تفاصيل التفاعل الإنساني، بعض الدروس تُلتقط بصرياً، وأخرى تتسرب إلى قلوبهم عبر الأحاديث المنطوقة.

قال الفيلسوف كونفوشيوس: "ما يسمعه الإنسان ينساه، وما يراه يتذكره، وما يفعله يتقنه".

 

أتذكر عندما كنا برفقة الأب، كنا نشعر بأننا نُوثّق الروابط ونُعزّز التقاليد والعادات القديمة، أما اليوم فنروي القصص ونفتح حوارات مع الأبناء، تلك الحكايات الشعبية تترك بصمات لا تُمحى، وتشكل شخصياتهم، وتُنمّي خيالهم، جزء من تلك الأفكار يفهمونها الآن، وجزء آخر سينمو معهم، وسيزهر في قلوبهم عندما يكبرون، وكما يُقال: "التربية هي أن تزرع في نفوس أطفالك بذوراً تنمو بلا أن تراها".

 

الاحتكاك بالآخرين يولد أفكاراً جديدة، يفتح نوافذ على عوالم مختلفة، والحوار المفتوح والأحاديث المتبادلة تُنمي فيهم القدرة على التعبير والفهم، فيتعلمون كيف يستمعون وكيف يتحدثون، وكيف يكونون جزءاً من نسيج المجتمع، في هذا السياق، يجب أن ندرك أهمية الموازنة بين التقاليد والتطور، إذ إن التمسك بالموروثات! لا يعني إغفال حاجة الأبناء للتأقلم مع متطلبات العصر. قال نيلسون مانديلا: "التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم".

 

كبرنا وتزوجنا، ورزقنا الله ذرية -نسأله عز وجل- أن تكون صالحة، أصبحت اليوم لدينا تجاربنا الخاصة، وبعد التقييم، أؤمن بأن دور الأب يتجاوز توفير الاحتياجات المادية، فهو الركيزة التي يستند إليها الأبناء في بناء شخصياتهم ومستقبلهم، أدعم هواياتهم وميولهم، وأحاول غرس حب القراءة والكتابة في نفوسهم، لعلهم يكتشفون عوالم جديدة بين صفحات الكتب.

 

أعلم أن التركيز على دروسهم مهم الآن، لكنني أرى فيهم شرارة الإبداع تستعد للتوهج، كما أن تشجيع الأبناء على استغلال التكنولوجيا بطرق إيجابية! يمكن أن يفتح لهم آفاقاً جديدة للتعلم والتطور. قال الشاعر طاغور: "كل طفل يأتي برسالة مفادها أن الله لم ييأس من البشر".

 

أحلم بأن يكبر الأبناء ونحن نتحاور في مواضيع شتى، نتبادل الأفكار ونسافر معاً في دروب المعرفة، فقد يكتسب أحدهم مهارة الكتابة، وآخر حب القراءة، وآخر مواهب تُضيء مستقبله، كما أطمح أن يكونوا مترابطين، تجمعهم أخوة أبدية ومحبة صادقة، وفي يوم من الأيام، سننظر إليهم بفخر ونقول: "لقد ربينا أبناءً صالحين".

 

علينا أن نترك أثراً طيباً في هذه الحياة، نزهر كالورود ونضيء كالنجوم، فما نقدمه اليوم قد يكون إرثاً للأجيال القادمة!، يجب أن نعي أيضاً أهمية تعزيز العلاقات الأسرية في زمن تسيطر فيه وسائل التواصل الاجتماعي على وقت الكثيرين، بحيث تكون تلك الوسائل وسيلة لتعزيز الروابط وليس تآكلها.

قال الشاعر أبو العلاء المعري: "وإنما أولادنا بيننا أكبادُنا تمشي على الأرض".

 

أخيراً، الحياة لحظة عابرة، لكن ما نزرعه في نفوس أبنائنا يبقى خالداً، ينمو ويُثمر في حدائق الزمن.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عاشق في محراب الوحدة!

  عاشق في محراب الوحدة! أنا وحيدٌ... دائمًا وأبدًا... ها هي ذاكرتي تُطوِي نفسها كملحمةٍ مهجورة، تتنفَّس بين سطورها لوعةٌ لا تموت. ظلٌّ طويلٌ...