الاثنين، 20 يناير 2025

 

أطفالنا مرايا لعالمنا: قراءة فيما وراء الأقنعة!

 

الأطفال هم مرآة تعكس لنا صورة حقيقية للعالم من حولهم، إنهم يمتلكون براءة، ونقاء تجعلهم غير قادرين على التظاهر أو الكذب، قد نلاحظ طفلاً يبتعد عن شخص معين دون سبب واضح، أو يرفض اللعب معه.

هذه الإشارات البسيطة قد تكون دليلاً على أن هذا الشخص لا يُعامل الطفل! أو ذويه بلطف، أو باحترام، أو ربما يغتابون هذا الشخص أمام الطفل، مما يدعونا للتساؤل عن سلوك الطفل تجاه الآخرين، فالأطفال، بصدقهم الطفولي، يكشفون لنا عن زوايا خفية في شخصيات الكبار قد لا ننتبه إليها!

 

فعلاً، الأطفال هم مرآة الحياة المدهشة التي تكشف لنا أعمق أسرارنا، وأغمض زوايا أنفسنا، وفهم براءة الوجود وصفاء العقول التي ترتشف العبرات من واقعها، وتنقلها لنا مروية بدون زيف أو تصنع!، أليس الطفل هو الكاتب الفطري لحكايانا اليومية؟

 

في وجود الأطفال، لا مكان للنفاق أو للمجاملة، فهم ينقلون ما يشعرون به فوراً، بدون أي مرشحات مجتمعية تحد من صدقهم!

تخيل طفلاً يرفض اللعب مع شخص ما، أو يبتعد عنه دون سبب واضح!، هل يمكن أن يكون هذا السلوك مجرد صدفة؟ لا، فهو مرآة لما يراه الطفل ويشعر به، من تصرفات وموقف هذا الشخص نحو الآخرين.

 

قد تكون بعض العلامات التحذيرية دليلاً على هناك شخص يخون ثقتك، ومن أبرز هذه العلامات هو تغير نبرة الصوت عند الحديث، أو تجنب النظر المباشر في العينين، أو التردد في الإجابة عن أسئلة مباشرة، ويظهر الكذب غالباً من خلال التهرب المتكرر من المواقف التي تتطلب الوضوح، أو المبالغة في وصف الأحداث! لتبرير سلوك معين، ويمكن أن تكون هذه العلامات إشارات مبكرة تدعو إلى إعادة تقييم العلاقة، ومدى مصداقية الطرف الآخر.

 

لغة الجسد أيضاً، هي أصدق ما يمكن أن يفضح مشاعر الشخص الحقيقية، حتى لو حاول إخفاءها، وعلى سبيل المثال، التململ المفرط أو اللعب بالأصابع أثناء الحديث قد يكشف عن شعور بالتوتر، أو عدم الراحة، كما أن التراجع خطوة إلى الخلف، أو وضع اليدين خلف الظهر قد يعكس محاولة للهروب، أو إخفاء الحقيقة.

والابتسامة المصطنعة، التي لا تصل إلى العيون، قد تكون إشارة إلى أن الشخص يخفي مشاعر أخرى، أو لا يعني ما يقوله، وتعد هذه التفاصيل الدقيقة مفتاحاً لفهم نوايا الآخرين، وما يخفونه في قلوبهم.

 

"الأطفال هم الشعر الحي الذي تكتبه الطبيعة على صفحات البراءة"، هكذا وصف الشاعر ويليام وردزوورث نقاء قلوب الصغار، فهم ينقلون بصدق رسائل غير مشوشة! تعبر عن حقيقة ما يدور في أعماقهم، وتنعكس في أفعالهم.

 

إن استكشاف الدوافع التي قد تدفع الكبار إلى التصرف بسلبية! تجاه بعض الأفراد، يكشف عن تعقيدات النفس البشرية، وقد تكون الغيرة هي المحرك الأساسي، حيث يشعر الشخص بالنقص أمام إنجازات الآخرين أو سعادتهم، والحسد بدوره يمكن أن يكون دافعاً قوياً لإظهار العداء، أو التصرف بطرق تسيء للآخرين.

 

أحياناً، تكون الرغبة في السيطرة، أو فرض النفوذ هي ما يحرك تلك السلوكيات السلبية، حيث يرى البعض أن تقليل الآخرين يرفع من شأنهم في نظر أنفسهم أو من حولهم، وهذه السلوكيات لا تمر دون أثر على الضحية، فهي تترك جروحاً نفسية قد تستمر لفترات طويلة، فالشعور بالخيانة أو الظلم يمكن أن يؤدي إلى انخفاض في الثقة بالنفس، وفقدان الأمان الاجتماعي!، وقد يبدأ الشخص في الشك في نوايا الآخرين جميعهم، مما يؤدي إلى عزلة عاطفية واجتماعية.

 

هناك تناقض دائم بين ما يظهره البعض من مشاعر! وما يخفونه في داخلهم، فقد تجد شخصاً يبتسم لك بينما يحمل في داخله نوايا سيئة، أو ربما يعبر عن كلمات الود وهو يخطط لإيذائك، وهذا التناقض يعكس مدى تعقيد العلاقات الإنسانية، ويؤكد أهمية الوعي والاستماع إلى الإشارات غير المباشرة! التي قد تكشف عن الحقيقة.

 

الثقة هي العمود الفقري لأي علاقة صحية، ومع ذلك فهي هشّة للغاية، فعندما يتم خيانة هذه الثقة، تُهدم العلاقات بسهولة، ويصعب إصلاحها!، فالخيانة تزرع الشك والخوف، مما يجعل من الصعب إعادة بناء الجسور المدمرة، وفي النهاية، تعلم كيف تميز بين من يستحق ثقتك!، ومن يجب أن تكون حذراً تجاهه! هو مهارة حياتية لا تقدر بثمن.

 

"اتقي شر من أحسنت إليه" هي مقولة عميقة تعبر عن تناقضات النفس البشرية، فقد يثير الإحسان لدى البعض شعوراً بالامتنان، لكنه قد يوقظ في آخرين مشاعر سلبية كالغيرة أو الحسد، وحين تقدم الخير لشخص ما، فإنه قد يشعر بضغوط نفسية! ناتجة عن رغبته في التخلص من هذا الجميل بأي طريقة، مما يدفعه إلى اتخاذ سلوكيات مؤذية أحياناً!

هذه الحكمة تتصل بجوهرها في إبراز ضرورة إدراك طبيعة البشر، وفهم سلوكهم استناداً إلى دوافعهم الكامنة، إنها دعوة للحذر والوعي، ليس بهدف التشكيك في الآخرين، ولكن لحماية النفس من احتمالات الغدر والخيانة.

 

السؤال لماذا الأطفال؟ الأطفال ليسوا فقط منعدمي القدرة على النفاق، بل هم كيانات تعمل بفطرتها، وتتحلى بصفاء الرؤية، فهم لا يحتاجون إلى مصلحة في كذبهم، ولا يرتجون مكاسب من المجاملات، وهذا ما يميزهم ويجعل كلماتهم ملتزمة بمواجيب الحقيقة فقط.

في هذا السياق، يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير: "من لا يملك شيئاً لإعطائك، لا يملك شيئاً ليأخذه منك"، هذه العبارة تشير إلى نقاء فطرة الطفل وبعده عن أي شوائب مجتمعية تلطخ هذا النقاء.

 

أخيراً، الأطفال لا يعرفون النفاق، فهم يعبرون بصدق عما يشعرون به ويعكسون البيئة التي يعيشون فيها، لذلك، فإن مراقبة سلوكهم تجاه من حولهم قد يكون المفتاح لفهم ما يدور خلف الأقنعة.

علينا أن نقرأ بين السطور، ونستمع إلى صوت البراءة الذي لا يعرف التزييف، لأنه ربما يحمل لنا الحقائق التي نغفل عنها.

 

قال الفيلسوف سقراط: "تعرف على نفسك من خلال نظرات الآخرين"، ربما نظرة طفل صغير تكون هي المرايا الأصدق التي تعكس حقيقتك. في نهاية الأمر، الثقة هي أساس العلاقات الإنسانية، فعندما تُخترق هذه الثقة، فإن الصدق هو الطريق الوحيد! لإعادة بناء الجسور المكسورة.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عاشق في محراب الوحدة!

  عاشق في محراب الوحدة! أنا وحيدٌ... دائمًا وأبدًا... ها هي ذاكرتي تُطوِي نفسها كملحمةٍ مهجورة، تتنفَّس بين سطورها لوعةٌ لا تموت. ظلٌّ طويلٌ...