الثلاثاء، 14 يناير 2025

أشواك الروح في ظلال الصمت!

 

في أعماق كل روح، يختبئ شوك الألم، جرح ينزف صمتاً، إنه الألم المخفي، هذا الضيف الدائم الذي يتسلل إلى القلوب، حاملاً معه أحزاناً لا تُرى، ومعاناة تتجذر في الظلام!، ينمو في أعماق النفس، بعيداً عن الأنظار، وهو كالظل الذي يرافق الإنسان في كل خطوة!، يذكرّه بعمق المشاعر الإنسانية، رغم قوة روحه، هذا هو الألم المخفي! الذي يولد من صمت طويل، ومعاناة مكتومة، وأحزان لا تجد من يفهمها.

 

قال الشاعر اللبناني جبران خليل جبران: "الصمت في بعض الأحيان يكون أفضل جواب"، غير أن هذا القول لا ينطبق في حالة الألم الخفي!، إنه ألمٌ يعتصر القلوب، ووجعٌ يختبئ خلف الأقنعة، فيكشف عن أعماق المعاناة التي تختبئ خلف القناع الاجتماعي، تغلغل واستفحل حتى ترسخ وكبر في صمت، دون أن يظهر للآخرين، إنه ألمٌ قاسٍ، تبرعم على غصن من السكوت!

 

قال الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي: "العالم يكسر الجميع، وبعد ذلك، يصبح البعض أقوى في الأماكن المنكسرة"، إلا أن هذا القول لا يجيب على سؤالنا حول الألم المخفي: أين يذهب الألم عندما يصمت اللسان ويقف الكلام؟ وهل يمكن للأشواك أن تنمو داخل الروح دون أن يلحظها أحد؟ حتماً، الألم المخفي هو الشعور الكامن في الأعماق، الذي ينتشر في ظلام الصمت، ويزهر بعيداً عن أعين الناس.

 

في كثير من الأحيان، يلجأ المرء إلى الصمت كآلية دفاعية، أو كدرع يحاول من خلاله حماية نفسه من المزيد من الألم، فقد يخشى الكثيرون الرفض أو الحكم عليهم، فيختارون الصمت عن آلامهم ومشاعرهم، والسؤال: لماذا نخفي ألمنا؟ ولماذا نختار الصمت على البوح أو حتى الصراخ؟ ربما لأننا نخشى الرفض، أو نعتقد أن ألمنا فريد من نوعه، لا يمكن لأحد فهمه، وربما لأننا نربط الألم بالضعف، ونخشى أن نكشف عن هشاشتنا.

 

قد يشعر المرء بأن الآخرين لن يفهموا ما يمر به، فيفضل أن يتحمل الألم وحيداً، وقد يرتبط الألم المخفي بمشاعر الذنب أو العار، مما يدفعه إلى إخفائه عن الآخرين، وهنا يكمن خطر الألم المخفي، لأنه يتغذى على العزلة وينمو في الظلام بعيداً عن أعين الآخرين، كنبتة تكبر شيئاً فشيئاً حتى تصبح شجرة ضخمة تظلل الحياة بظلها، إلا أن هذا الصمت يصبح قاتلاً عندما يتحول إلى سجن يقيّد المشاعر، ويمنعها من التعبير عن نفسها.

 

قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "من يحيا يستطيع تحمل أي ألم"، إلا أن، الألم المخفي ليس مجرد معاناة جسدية أو عارض مرضي، بل هو جرح عميق ينحفر في نفس الإنسان ويكتم في طياته المعاناة والوجع، إنه ألمٌ قاسٍ يترك ندوباً عميقة في النفس، ويؤثر على كل جوانب الحياة!

 

يقول الكاتب فيكتور هوجو: "أكثر الآلام أمانة هي التي لا يمكنك البوح بها"، كم من معاناة مخفية تختبئ وراء ستار الهدوء والابتسامة المتكلفة.

الألم المخفي يستهلك الطاقة، ويقتل الأمل، ويجعل الحياة تبدو بلا معنى، إنه كفيروس خفي ينتشر في أنحاء النفس، ويترك آثاراً عميقة على الهوية والشخصية، ولا يقتصر الألم على جسد واحد، بل يتجاوز الحدود، ليصبح جزءاً من التجربة الإنسانية التي توحد البشر في شعورهم بالمعاناة والأمل.

 

الألم المخفي عدو خفي، يهدد سلامنا الداخلي، ويميل الأشخاص الذين يعانون منه إلى العزلة الاجتماعية، مما يزيد من معاناتهم، أو يظل حبيساً في أعماق النفس، ومهما كانت مظاهره، يترك أثره على كل جوانب حياتنا، مثل العلاقات الاجتماعية التي تتأثر بالصمت والانعزال، والصحة النفسية التي تنعكس على الجسد، وحتى الأداء في العمل والدراسة، فهذا الألم يؤدي إلى ظهور العديد من الأمراض النفسية، مثل: القلق والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة، وقد يتجسد في شكل أعراض جسدية، مثل: الصداع وآلام المفاصل واضطرابات النوم.

 

ومع كل هذا، لا يزال الشفاء ممكناً، فالخطوة الأولى لمواجهة هذا الألم هي البوح به، والتحدث مع صديق موثوق، أو أحد أفراد العائلة، أو معالج نفسي الذي يمكن أن يفتح نافذة نحو الضوء ويضع حداً للظلام الاعتزالي، فالطبيب النفسي يساعد على فهم أسباب الألم وتطوير استراتيجيات للتعامل معه، علاوة على ذلك، ممارسة العناية الذاتية، والاهتمام بالنفس، والبحث عن الأنشطة التي تجلب الفرح والسلام.

 

قالت الأديبة الفرنسية جورج صاند: "الكلمة الطيبة تهزم الألم"، ويقول رومان رولان: "الألم ليس نهاية الطريق، بل هو مسار يجب أن نمشيه، لفهم أنفسنا وتحقيق شفائنا"، بالفعل، يحتاج الإنسان أن يسير في مناطق الوجع! لتفكيك قوة سلطته وفهم مكوناته.

 

قد يبدو غريباً أن نعتبر الألم فرصة، لكن الحقيقة هي أن الألم يمكن أن يكون معلماً عظيماً، إذْ يمكن أن يدفعنا إلى اكتشاف أعماق أنفسنا، وأن نصبح أقوى وأكثر وعياً، كما يمكن أن يجعلنا نقدر الحياة أكثر، ونقدر العلاقات مع من نحب.

 

الألم المخفي هو جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، ومن خلال مواجهته والتحدث عنه، يمكننا أن نجد القوة والعزاء في اللحظات الصعبة.

قال الفيلسوف اليوناني سقراط: "التعافي يبدأ بالاعتراف بوجود الألم"، ففي أعماق كل جرح، تكمن بذرة الشفاء، وعلى الإنسان أن يتقبل ضعفه، ليتمكن من تحويل معاناته إلى أداة للشفاء والنمو.

 

ومع ذلك، تذكر أن المعافاة لا تعني الانتصار فوراً، بل هي رحلة تجديد للروح والأمل، فالعالم لا يزال يمتلئ بالضوء لمن يستطيع تقبل ضعفه أمام الألم، ويفسح المجال لنمو الأزهار بين الأشواك.

أخيرا، رغم المعاناة الشديدة جراء الصمت أو البوح به، يجب أن نكون قادرين على الحفاظ على الكرامة والإيمان بالخير.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

  على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!  لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك...