الاثنين، 13 يناير 2025

 

وداع الميكروفون... رحيل الصوت الذي عشقناه!

 

تُعتبر العلاقة بين المذيع والمستمعين أشبه بعقد روحي غير مكتوب، مبني على الثقة والتواصل المستمر، فحين يقرر المذيع أن يُسدل الستار على رحلته، أو حين تفكر الإذاعة في الاستغناء عنه، يصبح من العدل والإنصاف أن يُكرَّم هذا الصوت الذي صنع الألفة في قلوب الناس، وأن يُقدَّر ما قدمه من عطاءٍ وصبرٍ وشغفٍ لا يضاهى.

 

لحظة وداع المذيع لميكروفونه ليست مجرد نهاية لمسيرة مهنية، إنها فصلٌ ختامي لرواية طويلة، حروفها هي لحظات اللقاء مع المستمعين، وأحداثها هي قصص حُكيَت، وأحلام سُعِدَ هو بتحقيقها، وهي وداعٌ لصوتٍ أصبح جزءاً من حياتنا، صوت نسج خيوطاً من الألفة والمحبة في قلوبنا.

 

إن صوت المذيع، الذي اعتاد أن يكون نبضاً مرافقاً لصباحاتنا وأمسياتنا، هو أكثر من مجرد كلمات تُلقى عبر الأثير، إنه حياةٌ تنبض في خلفية أيامنا، ورابطٌ خفي يجمع بين غرباء أصبحوا عبر صوته عائلة واحدة.

 

كم يشبه رحيل المذيع عن الإذاعة، رحيل نجم عن سماءٍ اعتدنا أن ننظر إليه كل ليلة!، نجمٌ كان يضيء لنا الدرب، ويُلهمنا بالأمل، فحين يغيب، نشعر بفراغٍ عميق، وبشيءٍ يفتقده الكون من حولنا، كأن الروح تُناديه في صمت، لكنه لا يجيب.

 

ولأن هذا الوداع يحمل في طياته الكثير من المشاعر، فإن هذه اللحظة تستحق أن تُخلَّد، ومن واجب الإذاعة أن تمنح المذيع التكريم الذي يليق بمسيرته، ليس فقط عبر كلمات الشكر، بل عبر لفتةٍ تحمل في طياتها اعترافاً بما قدمه من تأثيرٍ استثنائي على جمهوره، أما المستمعون، فإن لهم الحق في وداعٍ يُخفف عنهم وطأة الفقد، وداعٍ يحفظ لهم ذكرى جميلة من مذيع كان جزءاً من تفاصيل حياتهم اليومية.

 

لذا، يُفضل أن يُقدِّم المذيع أيضاً للمستمعين شيئاً خاصاً يعبر عن امتنانه لولائهم، ويكون ذلك عبر مشروع وداعي يترك أثراً طيباً، ويراعي مكانة المستمعين الذين ارتبطوا به خلال فترة عمله في الإذاعة، إنها لحظةٌ تستحق أن تُكتب بمداد من الذهب، وأن تُخلد في ذاكرة الزمن!، لحظةٌ تجمع بين الفراق والأمل، وبين الحزن والشكر، وبين الماضي والحاضر.

 

نعم، من الجميل أن يُقدم المذيع لجمهوره شيئاً يُبقي على هذه العلاقة نابضة، وتتيح له أن يوجه رسالة شكرٍ وامتنان لجمهوره، وأن يشاركهم بعضاً من ذكرياته الجميلة، كأن يخط كتاباً يُوثق فيه تجربته، أو يُنظم لقاءً تلفزيونياً موسعاً يُجيب فيه عن أسئلتهم، ويطمئنهم أنه بخير.

فهذا الجهد يُعتبر بمثابة تكريم شخصي لجمهوره، ويُعزز من صورته المهنية، كما أنه يُظهر احترامه لعلاقة بنيت على مدار سنوات، ويمنح المستمعين فرصة الوداع بأسلوب راقٍ ومؤثر، هكذا يكون الوداع أشبه بزهرة تُهدى في لحظة الفراق، تحمل عبق الذكريات ولا تذبل أبداً.

 

إن وداع الميكروفون ليس نقيض الاستمرار، بل هو الانتقال إلى مرحلة جديدة، وهو امتداد لحكاية تُروى بأشكالٍ جديدة، فالمذيع الذي ودع ميكروفونه، سيظل حاضراً في قلوبنا، وسيتذكر الجميع إبداعاته، وأصواته التي كانت تسكننا، فهذا الصوت الذي عشقناه سيظل يعيش في ذاكرتنا، لن يختفي، بل سيبقى حاضراً في أرواحنا كقصيدةٍ لم تكتمل، وكأنغامٍ تتردد في أذهاننا! كلما استدعينا لحظة كان فيها جزءاً من يومنا.

 

"إن الأصوات الجميلة لا تموت"، قال أحد الحكماء، "إنها تعيش في الذاكرة، تُغني الروح، وتُشعل الشوق كلما مرت بها الرياح"، وهذا ما نحتاج أن نتذكره دائماً: أن الفقد ليس إلا فرصة لنعيد تعريف الحضور.

 

كيف نودع صوتاً عشقناه؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تكمن في أن نحمله معنا كذكرى ثمينة، وأن نشكره بكل حب، وأن نُقر بأن العطاء الحقيقي لا يُقاس بالزمن الذي أمضيناه معاً، بل بالأثر الذي تركه في قلوبنا!، هكذا تبقى الأصوات الحقيقية خالدة، تلهمنا في كل مرة نُصغي إلى صمت العالم من حولنا.

 

جهاد غريب

يناير 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

  على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!  لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك...