الاثنين، 30 ديسمبر 2024

 

رسائل في زجاجة!

 

في لحظات الصفاء الداخلي، يتجلى السلام في قلوبنا فجأة!، كما لم يكن من قبل، نسترجع ذكريات الأصدقاء والزملاء وأولئك الذين كانوا جزءا من محيطنا الاجتماعي، فتتغلغل فينا حسرة مُرة حين ندرك أننا، في زمن لم تكن فيه وسائل التواصل متاحة كما هي اليوم، إذ لم نحرص على الاحتفاظ بطرق تواصل معهم، ولم نحصل على بريدهم الإلكتروني، ولا رقم هاتفهم، ربما بسبب ذلك، نشعر بألم الفقد العميق عندما تتوق أرواحنا للتحدث معهم، ولسماع أخبارهم، ولإعادة إحياء ذكريات لم تندثر من الذاكرة رغم مرور السنين.

 

في تلك اللحظات، تتجلى أمامنا وجوه الأصدقاء والأحباب الذين كانوا يوما جزءا من حياتنا، أولئك الذين شاركونا أسعد لحظاتنا وساندونا في المحن! فتغمرنا الذكريات، ويتسلل إلينا حزن عميق حين ندرك أننا لم نحافظ على روابط تواصل تضمن استمرار هذا القرب.

كنا نظن أن الزمن لن يبعدهم عنا، وكأن اللقاء بهم كان أمرا دائما لا يحتاج إلى تدبير، فينتابنا الأسى ويمتلكنا عدم الرضا، إذ إننا عاجزون عن التواصل معهم بسبب بعد المسافات التي تفصل بيننا.

شعرت بثقل في صدري وكأن حجرا كبيرا يضغط عليه، بينما تتساقط قطرات المطر على نافذتي، تعزف لحنا حزينا يتردد صداها في أروقة قلبي، تذكرت كل لحظة قضيناها معا، الضحكات، والدموع، والأحلام التي حلمنا بتحقيقها معا، شعرت وكأن جزءا مني قد رحل معهم.

 

هؤلاء الزملاء، والأصدقاء، والأحباب، والجيران الذين شاركونا تفاصيل الحياة في يوم من الأيام، أصبحوا في عالمنا كالأموات، إذ لا وسيلة لنا للوصول إليهم، ولا سبيل لإحياء تلك الصلات القديمة.

هل ما زالوا أحياء؟ هذا الأمل يراودنا باستمرار، فبعد كل هذه السنوات، لا نعلم عنهم شيئاً، وتحت جسور الذكريات نرى أشباحا تحوم حولنا، تلامس أعماقنا وتثير الشوق الذي لا يموت بداخلنا.

هل تغيرت حياتهم؟ هل يعيشون حياة سعيدة؟ أم أنهم قد واجهوا مصاعب؟ هذا الشك يزيد من عمق حزننا وشوقنا إليهم، لكن هذا الأمل الخافت يمنحنا القوة لمواصلة البحث عنهم، كأننا نرسل رسائل في زجاجة إلى البحر، على أمل أن تصل إليهم يوما ويعودوا ولو للحظة.

 

يغمر قلوبنا حزن لا يفتر، وكأن دمعة الروح تسقط صامتة، ويتوهج الشوق فينا كجمر متقد لا يجد له منجد، آه لو كانت الروح تستطيع البكاء لفعلت، لكن ما زلنا نفرح بذكراهم، بينما المسافات التي تفصلنا عنهم تجعل الفقد أعمق، فنشعر وكأنهم رحلوا بعيدا، تاركين في قلوبنا فراغا لا يملؤه شيء، ومع ذلك، فإن هذه الذكريات لا تخمد أبدا، إلا أنها تبقى حاضرة فينا، تذكرنا بمن نحب وتعيد إلينا لحظات من الماضي نشعر فيها بهم وبروحهم.

تستمر النار المشتعلة في قلوبنا، وتتوهج مع كل لحظة في رحاب الحنين، وشوق يتزايد كلما عدنا بذاكرتنا إلى تلك الأيام، في ظلال الذكريات نفرح بحضورهم في مخيلتنا، لكن المسافات العنيدة تفرض قسوتها، فتجعلهم كمن رحلوا عن عالمنا.

 

كم نتوق إليهم كمن يبحث عن دفء مفقود، عن روحٍ رافقتنا ثم غابت، تاركة في قلوبنا فراغا موجعا لا يمكن لأي شيء أن يملأه، ومع هذا البعد، يبقى حنيننا إليهم ثابتا، يمنح ذكرياتنا الحياة، ويشعل فينا بريق الأمل في الظلام بأن أرواحهم ما زالت تحيط بنا، حتى وإن فرقتنا الأيام.

أصداء الغياب تتردد في كل زاوية من حياتنا، تذكرنا بمن فقدنا وبما يعنيه وجودهم في حياتنا، وهذه المشاعر العميقة تجرفنا إلى أماكن تشع طمأنينة وسكينة، لكن تأخذنا حسرة مريرة حين نكتشف أننا نفتقد وسائل التواصل معهم! تلك الحقيقة المؤلمة التي لم نحسب لها حسابا، فنجد أنفسنا غارقين في مشاعر ما زالت رطبة، غير قادرين على إسكاتها، مما يزيد قلوبنا حزنا وأسى، وكأن القناعة تأبى أن تقتنع بمواصلة الحياة دونهم، فأبحث عنهم في كل مكان، وكأن جزءا من روحي قد فارقني معهم.

 

الشوق الذي يعتصر في دواخلنا له سطوة قاسية على مشاعرنا، لأنه يزيد من ألم الفقد، ويجعلنا نتوق للماضي الذي أصبح بعيد المنال، ومع مرور الأيام وتباعد المسافات، نغرق في بحر من الشوق لا ساحل له.

نشعر بفراغ لا يسده شيء، وبرغبة قوية في أن نسمع أصواتهم، نتبادل معهم الحديث، أو نعيد إحياء لحظات محفورة في ذاكرتنا، أيام تحمل في طياتها بهجة اللقاء وصفاء المحبة، لكن هذا الشوق يذكرنا بما فقدناه، وبالأشخاص الذين مضوا بعيدا، غير قادرين على العودة أو التلاقي كما كنا نأمل، ونتساءل أحيانا، هل ستجمعنا الأقدار يوما ما في مكان ما، لنعوض بعضاً من تلك الأيام الجميلة؟

 

كل لحظة صفاء تستحضر صورهم، تشع فيها قلوبنا بألمٍ لا يفتر وسكينة لا تكتمل، بينما تتوهج في داخلنا شعلة الشوق، فتذكرنا بمن نحب وبالأيام التي مضت ولم تعد، ونحاول جاهدين أن نتغلب على هذا الشعور، وأن نغلق أبواب الحنين، لكن عبثا، ففي أعماقنا تظل ذكرياتهم تتوهج، ملأى بفرح حضورهم ومرارة غيابهم، وتجعل منّا جمرا من الشوق، لا يهدأ، بل يتأجج بمرور الأيام تاركا جراح الزمن تنزف في صمت، فنشعر وكأننا وحيدون رغم الزحام.

 

جهاد غريب

أكتوبر 2024

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...