الخميس، 26 ديسمبر 2024

 

هل القلق دليل ارتباط عاطفي، أم أنه ظلال الخوف التي ترافقنا في رحلة الحياة؟

 

في عالمٍ يتسارع في خطواته، قد لا يُدرك الإنسان أنه يحمل داخله هواجس خفية تعلو! كلما سمع صرير حادثة، أو لمح دخاناً يتصاعد من الأفق البعيد!، تلك اللحظة العابرة تتحول إلى مرآة تعكس أعمق مخاوف الإنسان، إنه شعور لا ينتمي للمنطق، لكنه يستحوذ على الوجدان، ويتمسك بالعاطفة بقوة.

 

ربما عيناك تُلاحقان تفاصيل المشهد حتى تتأكد أن الخطر ليس قريباً، أما قلبك فيخفق! وكأنّه يسبِقُ الأحداث، تسأل نفسك: لماذا أتخيل دائماً أسوأ الاحتمالات؟ وهل هذا القلق فطري، أم هو صوت الخوف الذي يحرس الحب والعاطفة؟

 

من الواضح أن هذه المشاعر لا تمس شخصاً وحده، بل تتجسّد في نفوس كثيرة!، فالنفس البشرية ميالة للهواجس، والعلم يصفها بأنها ردود فعل طبيعية نتيجة لارتباط عاطفي عميق بمن نحب، والعلماء يقولون إنها طريقة للتأهب، والحفاظ على النفس من المخاطر، لكنها في وقت ما قد تصل لمستوى يعيق السكينة! ويثقل الروح.

 

كنت أقود سيارتي في مساء هادئ، عائداً من عملي، والشمس تراقب المدينة بوهجها الدافئ، حين ظهر في الأفق دخانٌ كثيف، كان يتلوى كسربٍ من الغربان السوداء، ينذر بحدثٍ مفجع!، وجدت نفسي أقود ببطء، وأمعن النظر فيه، فشعرت بدقات قلبي تتسارع، وكأنني أعيش الحريق نفسه، وتذكرت منزلي، وأحبتي، وصورهم وهم يحتسون قهوتهم، في تلك اللحظة أفرزت سؤالاً، بسيطاً، لكنه يطرق الأعماق: هل هذا الحريق يمس بيتي؟

 

وفي مساء آخر، كان يُمزق صمت الشوارع صوت سيارة إسعاف!، وصفيرها الحاد يخترق الأذنين، لكنه يقطع المسافات بين العقل والقلب، كنت ألاحقها بعيني عبر مرآة السيارة، متسائلاً عن قصتها، كم من أيدٍ متشبثة بالحياة بانتظار هذه العربة؟ وكم من الأرواح تتساقط دموعها وهي تناجي السماء؟ وهنا عاد لذاكرتي سؤال آخر: هل تلك السيارة تسابق الوقت لأجل أحد أحبّتي؟

 

هذا الشعور ليس غريباً، فعلم النفس يفسره كآلية دفاعية تطورت لتجعلنا أكثر حذراً تجاه المواقف التي قد تُفقدنا من نحب!، يقول كارل يونغ، عالم النفس الشهير: القلق هو صوت الروح التي لا تستطيع تجاهل احتمالات المجهول.

 

أما الأدباء، فقد جعلوا من هذا القلق غذاءً لإبداعهم!، نجيب محفوظ، في روايته "الحرافيش"، يقول: "الخوف لا يمنع من الموت، لكنه يمنع من الحياة"، كأنما يهمس لنا بأن هذا الشعور، رغم ثقله، يجب ألا يسرق منا لحظات الطمأنينة.

 

حين نحب، نصبح أكثر عرضة للخوف، فالحب يجعلنا نرى العالم من خلال نافذة صغيرة تطل على من يهمنا أمرهم!، أي دخان، وأي صوت إسعاف، يصبح تهديداً لهذه النافذة، إنها مفارقة، فالحب هو الذي يمنحنا القوة، لكنه أيضاً مصدر ضعفنا.

 

أحياناً، نجد العزاء في كلمات عميقة!، يقول جبران خليل جبران: "إنما يخاف الإنسان من المجهول لأنه يحمل فيه كل ما هو عزيز عليه"، وهذه العبارة تختصر الأمر: القلق هو صورة أخرى للحب، بوجهٍ يرتجف.

 

بين دخانٍ يتصاعد وصوت إسعافٍ يخترق المسافات، يبقى الإنسان أسيراً لتأملاته، ومقيداً بمخاوفه، لكن ربما، في كل مرة يُعايش هذه اللحظات، يتذكر أن هذه المشاعر، رغم قسوتها، هي دليل على عمق

إنسانيته.

 

أخيراً، هل القلق دليل حب، أم هو ظلال الخوف التي تحجب نور الطمأنينة، وترافقنا في رحلة الحياة؟ ربما الإجابة ليست في التحليل، بل في الشعور.

 

جهاد غريب

ديسمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...