الاثنين، 30 ديسمبر 2024

 

ثقافة العمرة والاشباع الروحي!

 

كان الفجر ينساب على أفق الرياض عندما صعدت ثلاث صديقات، ليلى، سارة، وهالة، إلى حافلة متجهة إلى مكة المكرمة.

لم تكن الرحلة مجرد وسيلة لأداء العمرة، بل كانت فرصة للتأمل واكتشاف أعماق ذواتهن، بحثا عن السكون الروحي الذي طالما اشتقن إليه.

 

جلست ليلى قرب النافذة، تتأمل الطريق الصحراوي الممتد أمامهن، ثم همست بصوت هادئ: "أشعر وكأن هذه الرحلة هي ما سيملأ الفراغ الذي أحس به، نحن بحاجة إلى هذا الإشباع الروحي، شيء نفتقده وسط زحمة حياتنا اليومية".

 

نظرت سارة، التي كانت تحمل كتابا عن التأمل الروحي، نحو ليلى وابتسمت: "نعم، هذا ما نحتاجه حقاً! غذاء الجسد وحده لا يكفي! الروح بحاجة إلى شيء أعمق... إلى السكينة، إلى الحب، إلى السلام.

نحن نملك احتياجات لا تنتهي، بعضها مادي وبعضها عاطفي، لكن في النهاية، ما نحتاجه هو ذلك الرابط الذي يصلنا بما هو أعظم منا".

 

ومع استمرار الحافلة في طريقها، بدأت أشعة الشمس الأولى تتسلل عبر زجاج النوافذ، تضفي بريقا دافئا ينساب على وجوه الصديقات، وكأن هذا الضوء يترجم رحلتهن الداخلية نحو أعماق أنفسهن.

 

نظرت ليلى إلى الرمال التي تمتد بلا حدود على جانبي الطريق، ثم قطعت لحظة الصمت قائلة: "أترين كيف يبدو الطريق وكأنه لا ينتهي؟ تماما كاحتياجاتنا... تظل مستمرة، لكن مع كل خطوة نقطعها، نشعر بالطمأنينة والسكينة".

 

ومع تتابع المشاهد الصحراوية أمامها، أدركت ليلى أن هذا الطريق الطويل يشبه الرحلة الروحية التي تعيشها بداخلها، وكلما ابتعدت الحافلة عن صخب الرياض، كانت تشعر بأن الفراغ في قلبها يتضاءل تدريجيا، ليحل محله شعور بالسلام الداخلي.

 

أومأت هالة برأسها وهي تتأمل الصحراء الواسعة أمامهن، وقالت بصوت هادئ: "نعم، هذا هو سر الاحتياج الروحي! نحتاج إلى شيء يسد الفراغ في داخلنا، ليس بشيء عابر أو زائل، بل بما يمنحنا شعورا دائما بالسلام، ولهذا، الحب لله والإيمان هما المصدر الذي لا ينضب".

 

بينما كانت الكلمات تتردد في أذهانهن، شعرت سارة بضرورة مشاركة تأملاتها أيضاً.

سارة، التي كانت تضع إشارة في الكتاب لتتوقف قليلاً عن القراءة، تنهدت وقالت: "إنها طبيعتنا الإنسانية، نبحث باستمرار عن شيء يسد هذا الفراغ! أحياناً نجد هذا في علاقاتنا مع الناس، وأحيانا في نجاحاتنا المادية، لكن الحقيقة هي أن احتياجات الروح أعقد من ذلك، نحتاج إلى الإيمان، إلى شيء يجعلنا نشعر أن هناك ما يوجه حياتنا ويمنحها معنى".

 

هالة، التي كانت تستمع بانتباه، تدخلت قائلة: "تماما، الحب الحقيقي ليس مجرد مشاعر، بل هو وسيلة للتخلص من الأنانية، وهو تواصل روحاني يربطنا بالآخرين بعمق، لكن، في النهاية، حتى الحب الأرضي غير كافٍ، لأن الإنسان يحتاج إلى تواصل مع الله ليجد السلام المطلق، كما قال ابن حزم في 'طوق الحمامة'، الحب هو رحلة روحية تبدأ في الهزل، وتنتهي بالجد، ولا يمكن إدراكها إلا من خلال التجربة".

 

سكتت سارة للحظة، ثم قالت بصوت عميق: "أظن أن هذا ما يجعل العمرة تجربة فريدة! إنها ليست مجرد أداء لشعائر، بل هي رحلة في أعماق النفس، حيث نبحث عن تواصل مع الله، ونسعى لإشباع الروح بمعرفة أن هناك من يرعانا ويهتم بحاجاتنا العميقة، حتى تلك التي لا نفهمها".

 

ردت ليلى بحماس: "نعم! ربما هذا هو السبب الذي يجعل القوة الروحية أقوى من أي شيء آخر! وعندما ندرك علاقتنا بالله، نصبح أقوى، لا شيء يوقفنا، لا مخاوف، ولا شهوات مادية، لأننا نعلم أن الله هو الموجه، وهو الذي يملك كل القوى".

 

ابتسمت هالة وأضافت: "والأجمل في هذه الرحلة أننا نعيد اكتشاف أنفسنا، ليس فقط من خلال الدعاء والطواف، بل من خلال هذه اللحظات التأملية التي نشاركها، وعندما نتحدث عن احتياجاتنا، عن الحب، وعن القوة الروحية، نحن في الحقيقة نقوم برحلة داخلية قبل الوصول إلى مكة".

 

بينما استمرت الحافلة في مسيرها نحو مكة، كانت الصديقات الثلاث مشغولات في حوارات عميقة تحمل الكثير من المعاني.

ازدادت شمس الصباح توهجا، مكونة ظلالا طويلة تمتد على الطريق، وكان الحديث عن العمرة وما تحمله من روحانية يملأ الجو بطاقة هادئة وقوية، تلامس أرواحهن بعمق.

 

سادت لحظة من الصمت بينهن، وكأن الحديث عن الروحانية والحب قد أيقظ شيئا عميقا في قلوبهن، ومع مرور كل دقيقة، كانت الطمأنينة تتسلل إلى قلوبهن ببطء.

 

نظرت ليلى من النافذة، وقالت: "إنه شعور غريب... كلما اقتربنا من مكة، أشعر أن شيئا داخليا يستيقظ، كأنني أبحث عن شيء مفقود في أعماقي، شيء لا أستطيع تحديده تماما، لكنه يملأني بالشوق".

 

هالة، التي كانت ترتب حجابها قليلاً، نظرت إليها بابتسامة رقيقة وقالت: "ربما هو جزء من الإشباع الروحي الذي نبحث عنه جميعا، نحن في هذه الرحلة ليس فقط لتأدية شعائر، بل لنجد السلام الداخلي الذي لا يمكن أن نحصل عليه إلا بالقرب من الله".

 

سارة، التي كانت تفكر بعمق في كلمات هالة، قالت: "الحقيقة أنني دائما كنت أعتقد أن الروحانية هي قوة سرية تدفعنا نحو شيء أكبر من أنفسنا! شيء يجعلنا نعيش الحياة بعمق أكبر، وها نحن الآن، نسير نحو مكة، نحو الله، وكل خطوة تأخذنا بعيدا عن الضوضاء التي نعيشها كل يوم، وتعيدنا إلى جوهرنا".

 

أخذت ليلى نفسا عميقا، وابتسمت بحنين قائلة: "تذكرين يا سارة حديثنا في المدرسة عن قصص الحب العذري؟ مثل عروة وعفراء، أو مجنون ليلى؟ الحب كان حاجة إنسانية عميقة، لكنه كان نقيا وبريئا".

 

ثم أضافت: "أتعلمين، عندما نفكر في الاحتياجات التي نتحدث عنها دائما، سواء كانت مادية أو عاطفية، نجد أن هناك فجوة في حياتنا لا يمكن أن تملأ إلا بالإيمان، تماما كما قال سارتر، الحب يعيد لوجودنا مبرره، لكن في العمرة، أشعر أن هذه الرحلة الروحية تعيد لي إحساسي الكامل بوجودي... كأنني أستعيد روحي".

 

ومع استمرار الرحلة، كان التأمل في الكون يعيد لكل واحدة منهن جزءا من الطمأنينة الداخلية التي غابت عنهن منذ فترة طويلة، شعرت ليلى أن الحديث عن الحب النقي، كحب مجنون ليلى لعذراه، ليس سوى تلميح لحاجاتهن الروحية التي تلامس أعماق النفس.

 

ابتسمت هالة بإشراق، وقالت: "نعم، العمرة ليست مجرد طواف وسعي، إنها تذكير دائم بأننا جزء من شيء أكبر، وعندما نصل إلى الكعبة، ونقف أمام بيت الله، نشعر بأن كل تلك الاحتياجات الدنيوية التي طالما فكرنا فيها تبدو تافهة، لأننا نجد في تلك اللحظة أن الله وحده يكفي".

 

تأملت سارة كلام هالة وأومأت برأسها: "هذا صحيح! وكلما اقتربنا من الله، نكتشف أن حاجتنا الحقيقية ليست في الأشياء التي كنا نعتقد أنها ضرورية! الحب، النجاح، حتى الأمان المادي... كل ذلك يصبح ثانويا، ما نحتاجه حقا هو أن نشعر بأننا لسنا وحدنا، وأن الله دائما معنا، يرعانا ويوجهنا".

 

بينما كانت الحافلة تقترب من محطة استراحة، شعرت الصديقات بتغير في الجو، وكان الهواء يحمل روحانية مختلفة، وكأن مكة تحتضنهن قبل أن يصلن إليها.

 

عند توقف الحافلة، نزلت ليلى مع الصديقتين معاً في الظل وتناولن قليلاً من الطعام، لكن الأحاديث استمرت.

 

قالت ليلى بنبرة هادئة: "لقد قرأت ذات مرة أن الحب ليس مجرد مشاعر تجاه الآخرين، بل هو فعل قربان نقدمه للروح، وكلما أحببنا بصدق، كلما شعرنا بالتحرر من الأنانية والقلق، وهذا هو الحب الحقيقي، حب الله الذي يغمرنا بالسكينة، أعتقد أن هذه الرحلة ستعيد لنا هذا الحب الخالص".

 

نظرت سارة نحو السماء الصافية، وقالت: "إنها ليست مجرد رحلة إلى مكة، بل هي رحلة نحو أعماق النفس! نبحث عن الطمأنينة، عن معنى لحياتنا، ومن خلال تأدية مناسك العمرة، أشعر أننا نعيد ترتيب أولوياتنا، نعيد توجيه قلوبنا نحو الحب الحقيقي، ذلك الحب الذي يجعلنا نشعر بأننا جزء من شيء أكبر".

 

هالة، التي كانت تمسك بكتاب صغير للأدعية، أضافت: "وفي النهاية، نكتشف أن العمرة ليست مجرد أفعال شعائرية، إنها وسيلة للعودة إلى ذواتنا الحقيقية، تلك التي خلقنا الله عليها، نكتشف الحاجة الحقيقية للروح، والتي تتجاوز كل الاحتياجات المادية، إنها حاجة الحب لله، والقوة التي نحصل عليها من الإيمان".

 

نظرت ليلى إلى هالة وسارة وابتسمت: "هذا صحيح، كلما تحدثنا أكثر، أشعر أنني أقترب من اكتشاف نفسي من جديد، وكأننا نعيش تحولا روحيا على الطريق، قبل أن نصل حتى إلى مكة".

 

هكذا، استمرت الصديقات الثلاث في حديثهن عن الإشباع الروحي والحب والإيمان، مستكملات رحلتهن ليس فقط نحو مكة، بل نحو أنفسهن.

كانت هذه الرحلة بالنسبة لهن أكثر من مجرد طواف حول الكعبة، كانت بحثاً عن السكينة الداخلية وعن الحب العميق الذي يربط الإنسان بالله، وهو ما يجعل الحياة ذات معنى وقيمة.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين يضيء الأفق بعد العتمة

  حين يضيء الأفق بعد العتمة رسالة في الصبر والفرج   في زحام الأيام الثقيلة، حيثُ تتكدّس الهموم في الصدر كما تتكدّس الغيوم فوق سماءٍ ضا...