حين تُقيدنا حدود الذات عن عوالم الآخرين!
غالباً ما يقف الفرد أسير رؤيته المحدودة، ساعياً لفهم علاقاته وتفاعلاته
مع الآخرين من خلال عدسة تجاربه الخاصة وأساليبه المعتادة، وفي هذا الإطار، قد يجد
نفسه عالقاً في دائرة من الاجتهاد المتكرر بحثاً عن إجابات داخل ذاته، متصوراً أن تحسين
علاقاته يكمن في تعديل سلوكه فقط، لكن هذه الرؤية الضيقة قد تؤدي إلى صعوبة فهم شخصيات
الآخرين وأنماطهم المتباينة، إذ لكل فرد طريقته الخاصة في إدراك الحياة ونمطه المميز
في التفاعل، فالتباين بين الناس هو ما يعطي العلاقات عمقها وغناها، والقدرة على التكيف
مع هذه الاختلافات هي مفتاح التواصل السليم.
أما "الضحية النمطية" تحديداً، فتجد نفسها غارقة في هذا التركيز
المحدود، منشغلة باجترار الشكوى والاعتقاد بأنها الأكثر شفافية وصدقاً، ولكن! في هذا
الانغلاق على الذات، تغفل عن أهمية رؤية الأمور من منظور الآخرين، وعن ضرورة الوعي
بخصوصياتهم، مما قد يفقدها التوازن في التعامل معهم.
إن نقد الذات ومراجعة الأساليب الشخصية هو السبيل لتجاوز هذا القيد، والانتقال
إلى فهم أوسع يثري العلاقات، ويخرج الفرد من دائرة الانغلاق الأحادي، ليصبح أكثر انفتاحاً
ومرونة في تفاعلاته.
من السهل أن ينغلق الفرد في دائرة التركيز على ذاته، متمسكاً بأسلوبه الخاص
في التعامل مع الآخرين، وهذا ما نراه لدى "الضحية النمطية"، حيث تسعى
"الضحية" لتحسين تفاعلاتها، لكنها تعتمد على منظورٍ أحادي يفتقر إلى مرونة
تقبّل الاختلاف.
إن تجاهل تنوّع أنماط التفكير وطرق التفاعل لدى الآخرين يقود إلى خلل في
العلاقات، ويدفع الفرد للشعور بالعزلة، أو عدم الرضا عن نفسه، لذا، فإن إدراك سلوكيات
الآخرين وتبني نهج مرن في التعامل يشكل أساس النجاح في بناء علاقات صحية ومؤثرة.
على الإنسان أن يسعى دائماً لتحقيق التوازن بين أسلوب ثابت متزن، وبين
التعامل وفق ما يتلاءم مع كل شخصية! فهذه المهارة هي قوام "الذكاء العاطفي"
الذي يجعل العلاقات أكثر تناغماً.
إن الشخصيات الكبيرة، كرسل الله والأنبياء، برعوا في توجيه رسائلهم وإيصالها
لفئات متعددة بفضل إدراكهم للتنوع في الطباع، فالغاضب يحتاج إلى نهج هادئ، والحساس
إلى أسلوب يفيض باللطف، أما الذكي فمفتاحه هو الحوار الذي يثير فكره.
إن هذا التفرد في التعامل يكشف لنا أن التواصل مع الآخرين ليس مجرد مهارة،
بل هو فلسفة تتجدد بتجدد المواقف، حيث يُدعى الفرد للسعي لفهم الاختلافات وتجاوز الأطر
الأحادية.
إدراك التنوع الكامن في دواخل البشر ليس مجرد خيار، بل ضرورة لبناء علاقات
متينة، فكما أن الطبيعة تزدهر بألوان متعددة، كذلك تتنوع أساليب البشر في التفكير والتفاعل.
إن الالتزام بنمط وحيد في التعامل ليس إلا طريقاً للجمود! لذا، يلزم المرونة
والتنقل بين طرق التواصل، لتعزيز الروابط الإنسانية.
التكيف مع اختلافات الآخرين هو سمة جوهرية من سمات الذكاء العاطفي، تلك
القدرة الشاملة التي تعين الفرد على فهم وإدارة عواطفه وعواطف من حوله، مما يعزز من
قدرته على التواصل مع كل شخصية بما يناسبها، ومن هذا المنطلق، يفهم الإنسان أن تقدير
الفروق بين الأفراد هو أساس بناء العلاقات الناجحة، وهو ما يعيد تشكيل مفهوم التعامل
كمهارة مرنة، تتجدد وتتغير بتغير المواقف والظروف.
لماذا تظل "الضحية" حبيسة رؤيتها المحدودة؟ تنكشف هنا عوامل
كامنة قد تدفع بها إلى هذا السلوك، منها: قلة الثقة بالنفس، التي تدفع المرء إلى التركيز
على ذاته خشية الرفض، مما يقيّده في دائرة ضيقة من التفاعلات الحذرة.
كذلك التجارب السلبية السابقة، التي تترك بصمات عميقة في النفس، فتغرس
افتراضات سلبية حول الآخرين، إضافة إلى الخوف من التغيير، حيث يخشى البعض تعديل سلوكياتهم
خوفاً من الفشل، مما يمنعهم من تحسين طرق تواصلهم مع الآخرين.
لتطوير مهارات التواصل وتعزيز قدرة الفرد على بناء علاقات صحية، هناك خطوات
عملية يمكن السير فيها نحو تحقيق هذا الهدف.
يأتي الاستماع الفعّال: الإصغاء بانتباه حقيقي دون انقطاع، وهو ما يُعبّر
عن احترام المتحدث ويدل على اهتمامٍ بمكنونات الآخرين، يلي ذلك التعبير عن الذات بوضوح،
فالتعبير الصادق والواضح عن الأفكار والمشاعر دون تورية يفتح الباب أمام تواصل أكثر
انفتاحاً وفهماً، ثم تأتي أهمية التعاطف، وهو نافذة سحرية لرؤية العالم بعين الآخر،
إذ يكسر حواجز سوء الفهم، ويُعمق العلاقات، ويزيل مسافات البُعد العاطفي.
أخيراً، فإن حل المشكلات المشترك والسعي للوصول إلى حلول ترضي الأطراف
كافة يُشيّد علاقات قائمة على التعاون، ويعزز احترام الأفكار المختلفة.
التنوع الثقافي لا يقل أهمية عن التنوع الشخصي، فالثقافة تشكّل الأفق الذي
من خلاله يتشكل أسلوب التواصل، وتؤثر في أنماط التفاعل.
إن استيعاب هذه الاختلافات يُعزز التكيف مع الأشخاص المختلفين، ويدعم أسس
التواصل الفعّال.
جهاد غريب
نوفمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق