الاثنين، 30 ديسمبر 2024

 

العتاب: جسر للتواصل أم حائط من الجليد؟

 

العتاب كالسكين، يمكن أن يقطع اللحم ويفتحه، أو أن يشق الجلد ويترك ندبة عميقة، فإذا كان الهدف من العتاب هو الشفاء والتغيير، يجب أن يكون كسكين الجراح الذي يزيل الأجزاء التالفة بدقة وحذر، أما إذا كان الهدف هو الإيذاء والانتقام، فسيصبح كالسكين الذي يطعن في القلب بلا رحمة، لذلك، يجب أن نتعلم كيف نميز بين العتاب البناء والمدمر؟، وكيف نستخدمه كأداة للنمو والتطور؟، وليس كسلاح للتدمير.

 

العتاب يا رفيقي ليس لعبة، ولا هو سياط، بل هو شعرة بين وصلٍ وقطع، كأنك تمسك وردة وتقطف أوراقها: "يحبني؟ لا يحبني؟" لكن الوردة في العتاب ليست وردة، بل قلب الآخر، فإذا زاد العتاب عن حده، يصبح كالنار تأكل الأخضر واليابس، وإذا جاء متأخراً، فكأنك تلوم البحر بعد الغرق، أما إذا كان جارحاً، فإنه بدلاً من إصلاح الحال يزيد الطين بلة، ورغم ذلك، للعتاب إيجابيات لا تخفى، فهو أداة لترميم العلاقات، كنجار يصلح كرسياً قديماً ليعود أقوى من قبل، وهو أيضاً إظهار للمحبة، ودليل على الاهتمام، فمن يعاتبك، يحبك، أخيراً، هو ماء المطر الذي يغسل غبار الأيام لتعود القلوب أكثر نقاءً.

 

في حياتنا اليومية، قد تجد صديقاً تأخر عن موعد مهم، فيعتذر قائلاً: "كان الطريق مزدحماً"، فترد مبتسماً: "أمّا أنا، فلم أكن في الزحام، بل كنت في انتظارك!"، مثال آخر من الأدب، حين عاتب المتنبي نفسه في بيته الشهير: "إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ..  فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ"، هنا عتاب داخلي، يدفعه لتحقيق المزيد.

 

العتاب يلامس أعماق النفس، حيث يشعر المُعاتِب برغبة في تصحيح المسار، بينما قد يشعر المُعاتَب بالحرج أو الدفاعية، وقد أشار خبراء علم النفس إلى أن العتاب البناء يساعد على تفريغ المشاعر السلبية وتحسين العلاقات، بشرط أن يتم بلغة هادئة ومباشرة، أما العتاب المدمر، فيمكن أن يسبب أذى نفسياً عميقاً، مما يؤدي إلى فقدان الثقة!، وإغلاق أبواب التواصل.

 

النقد البناء يهدف إلى تحسين الأداء، بينما يركز العتاب على المشاعر وتصحيح الأخطاء في العلاقات، على سبيل المثال، إذا أخطأ زميل في العمل، يمكنك نقده قائلاً: "ربما لو جربت هذه الطريقة، ستكون النتيجة أفضل"، بدلاً من عتابه بحدة: "لماذا أخطأت بهذا الشكل؟"، لاحظ، الفارق هنا في النية والأسلوب، وكلاهما يعكس مدى حرصنا على الطرف الآخر.

 

في الثقافة العربية، يُعتبر العتاب جزءاً من الود، وهو دليل على العلاقة العميقة، أما في بعض الثقافات الغربية، فقد يُعتبر العتاب تدخلاً غير مرغوب فيه، حيث يُفضل النقاش المباشر حول المشكلة، وفي الثقافة اليابانية، يُستخدم أسلوب غير مباشر، مثل: التلميح أو الإشارة، لتجنب إحراج الطرف الآخر.

 

فن العتاب يختلف حسب نوع العلاقة، ففي الصداقة، يمكن أن يكون العتاب بسيطاً ومزاحياً، وبين الزوجين، يجب أن يكون العتاب حنوناً وخالياً من اللوم المباشر، وفي العمل، يفضل استخدام النقد البناء، بدلاً من العتاب، بينما مع الأبناء، يجب أن يكون العتاب تعليمياً ومصحوباً بالتوجيه.

 

العتاب المدمر قد يؤدي إلى تدمير العلاقات، وخلق جو من التوتر، وعدم الثقة، ففي بعض الأحيان، يصبح العتاب مجرد وسيلة لتفريغ الغضب، بدلاً من محاولة الإصلاح، مما يؤدي إلى تباعد الأطراف بدلاً من تقاربها، وقد يسبب ذلك شعوراً بالخذلان لدى المُعاتَب، وربما يدفعه إلى الانسحاب من العلاقة تماماً.

 

العتاب بدون صفح كالنهر بلا ماء، فالصفح يعزز العلاقات ويعيد بناء الثقة، وعندما ينتهي العتاب، يجب أن يكون هناك تسامح حقيقي، حتى يشعر الطرف الآخر بأن العلاقة قد استعادت دفئها، وكما قال الشاعر: "إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ معاتباً.. صديقَك لم تلقَ الذي لا تعاتبه".

 

العتاب هو ملح العلاقات، لكنه يجب أن يُستخدم بحكمة، وهدفه ليس الانتصار في النقاش، بل الحفاظ على المحبة والتواصل، وتذكّر أن أفضل أنواع العتاب هو الذي يُقال بلطف، ويُستقبل بابتسامة، وينتهي بسلام.

عاتبت قلبي على جفاء صديق.. فقال: تمهّل، فإن العتاب عميق!

عاتب بلطفٍ، ودع خصام الرفيق.. فالودّ يبقى، إذا العتاب رقيق.

 

جهاد غريب

ديسمبر 2024

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...