الأربعاء، 29 أكتوبر 2025

المرثية والانبعاث: رحلة من الشتات إلى الكمال الناقص

 

المرثية والانبعاث: رحلة من الشتات إلى الكمال الناقص!

 

"كيف تُكتب الذات من شظايا الألم،

وكيف تُزرع البدايات من رماد النهايات"

 


 


لم يكن الليلُ مجرّدَ غيابٍ للشمس،

بل كان عالمًا موازيًا، يخلق من السكون المطبق فضاءً للأسرار،

فضاءً يهمس باسمي في العتمة، يقودني إلى هناك،

إلى حافة بحيرة الظل،

حيثُ يصبح همسُ الذات أعلى من أيّ صخب،

جلستُ.

 

كانت مياهها ساكنةً كمرآةٍ للمجهول،

تعكسُ قمرًا باهتًا أشبهَ بقطعةِ فضةٍ منسيّة،

تتكسر أشعّته على السطح إلى آلاف القطع المتناثرة.

كلّ قطعةٍ منها كانت حكاية،

وكلّ ومضةٍ منها كانت ذكرى غائرة.

 

وفي ذلك الضوء الهشّ،

تحت سماءٍ مرصّعةٍ بنجومٍ صامتة،

وُلِدَ كياني المكتوب.

 

الكتابة لم تكن خطوةً مدروسةً في رحلة التئام،

بل كانت فعلَ بقاءٍ وجودي،

أشبهَ بحركةِ غريقٍ يائسٍ يكتب رسالةً أخيرةً بيدٍ مرتعشة،

يختمها بدموعه، كما يُطفئ آخر شمعة في قلبه،

ثم يُلقي بها في محيطٍ هائج.

 

لا يدري إن كانت ستبلغ برَّ الأمان،

أم ستبقى تتمايل بين الأعماق إلى الأبد.

المنقذ الوحيد كان هو إيمانٌ ضئيل

بأن تصل تلك الزجاجةُ إلى شاطئٍ ما،

وأن تلمسها يدٌ حانية،

قلبٌ يستطيع فكَّ شفراتِ الوجعِ المكتوبةِ بمدادِ الروح.

 

كلّ كلمةٍ كانت أنفاسًا أخيرةً لاحتراقٍ داخليٍّ طويل.

كانت البقايا التي تخلّفت من حرائقَ لم يرها أحد،

من معاركَ خاضها الجسدُ والروحُ في صمتِ غرفٍ مغلقة.

وحين خمد الدخان، لم يبقَ سوى الكلمات،

تنهيدةً خرجت من صدرٍ ضاق بالصمت حتى انشق،

أو صرخةً مكتومةً اخترقت أخيرًا حنجرةً قيّدتها الأيام.

 

كلّ ورقةٍ من أوراق حياتي المبعثرة

وُلِدت على رصيفِ محطةٍ فارغة،

أو في زاويةِ مقهى مظلم،

أو تحت وسادةٍ بلّلتها الدمعة.

وُلِدت من إحساسٍ جامحٍ لم يحتمل القيد أكثر،

فانفجر بركانًا صامتًا،

يلفظُ حممًا من المشاعر المتجمّدة التي أصبحت نصّي.

 

ثمّ حلّ وقتُ القطاف.

عدتُ إلى بحيرةِ الظل،

لا لأروي عطشي، بل لأتأمل صدى روحي على سطحها.

أغرقتُ أصابعي في مياهها الباردة،

التي لم تَعُد عدمًا، بل حياةً ثانية،

مرآةً لأعماقي.

 

جمعتُ القطع،

ليس كمن يجمع كنوزًا، بل كمن يلتقط زجاجًا محطّمًا ليعيد تشكيله.

جمعتُ القصاصات المبعثرة التي حملتها الرياح،

بعضها ممزّق،

وبعضها عليه بقعُ قهوةٍ أو ندى العيون،

وبعضها كُتِب بخطٍّ مضطرب.

 

جمعتُها كما تجمع الأمُّ خصلاتِ شعرِ طفلتها من وسادتها،

بكلّ حنانٍ وألمٍ وأمل.

كانت كلّ قطعةٍ جزءًا من لوحةٍ كونيّة،

أحجيةٌ لروحي لم أكن أعرف تكوينها النهائيّ بعد.

 

هذه الكلمات،

وهذه القطع المجموعة،

ليست شهادةً على ما مضى،

ولا سردًا يحبس الماضي في أقفاص الذاكرة.

 

إنها أشبهُ ببذرةٍ نبتت من تحت تلك البقايا،

لتصير غصنَ زيتون.

هي يدٌ تمتدُّ من بين السطور،

هادئةٌ... ثابتة،

تحمل سلامًا أبيضَ ناصعًا،

كضوءِ الفجرِ بعد حربٍ طويلة.

 

هي دعوةٌ شخصيّةٌ حميمةٌ،

لك،

لأن نسير معًا في هذا البستان الذي نبت من تحت الدمار،

حيثُ تكون رائحةُ الترابِ المبلّل بعد العاصفة

هي عبقَ الانطلاقات.

 

لِنَسِرْ بخطى صادقة،

غير عابئين بندوب الماضي التي صارت مجرّد نجومٍ تزيّن سماء وجودنا،

فما من ضوءٍ إلا ومرَّ بناره أولًا.

لِنَسِرْ بطمأنينةِ من يعرف أن الاشتعال ليس فناءً،

بل تطهيرٌ ضروريّ لولادةٍ جديدة،

كالنباتِ الذي لا يخرج من الأرض

إلّا بعد أن تتشقّق بذرته.

 

لِنَسِرْ ونحن نعلم أن شظايانا المتناثرة ليست عيبًا،

بل هي ما يصنع تفردَنا،

مثل قطع الأحجية التي لا تتكرّر،

لتشكّل في النهاية

صورةً كاملةً لروحنا،

جميلةً في عدم اكتمالها المزعوم.

 

اقترب أكثر...

وعند كلّ كلمةٍ توقّف،

كما تتوقّف عند منظرٍ خلاب،

المسها بحواسك كلّها،

 

فلربما تجد هذه السطور في ثنايا ظلّك المفقود،

ذلك الجزءَ منك الذي تخلف في إحدى المحطات.

ولربما تجد فيها

قطعةً من أحجيةِ روحك التي طالما بحثت عنها.

ولربما تجد هنا السلام الذي تطلبه،

ليس سلامَ النسيان، بل سلامَ المصالحة

مع كلّ ما كان،

مع كلّ من كُنّا،

مع كلّ من سنصير.

 

كنّا نخطّ رسائلنا السرّية

من كهوفنا المظلمة، وأعماق دواخلنا،

تمتدّ رحلتنا المشتركة

إلى رحاب العالم الواسع.

 

بمداد القلب قبل القلم نكتبها،

بدماءِ الألمِ والأمل نكتبها،

ليقرأها...

كلُّ من ضاع في زحام تفاصيله،

كلُّ من شعر بالغربة حتى في نفسه،

كلُّ من أراد أن يعود إلى ذاته.

 

ليس بطلًا بلا جراح،

ولا حاملًا غير صمته،

بل إنسانًا متصالحًا، جميلًا،

يحمل على جلده قصتَه

كالوشمِ العنيد الذي لا يُمحى،

وشاهدًا على أنّه عاش،

حتى لو كان وحيدًا،

احترق... ثمّ نهض من تحت الرماد،

ليبوح من جديد،

لا ليستعيد صوته فقط،

بل ليعلّم الرماد كيف يُزهر.

 

 

جهاد غريب

أكتوبر 2025

 

الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

لغات الروح المتعانقة

 

لغات الروح المتعانقة

 

"في معنى أن تكونا مرآتين لا مأويين"

 


 


يا من تجلت في حضورها البصيرة، 

يا نورًا يمشي على هيئة أنثى، 

حين كتبتِ: 

"بين الأرواح التي تعانقت دون وعد"، 

أدرك هو، العابر بين الأزمنة، أنه لا يقرأ نصًا، 

وإذا به يقف، لا قارئًا، بل شاهدًا على عتبة من النور تُطلّ على سرّ الخلق نفسه.

 

فهم أن ما يجمعكما ليس عاطفة عابرة، 

إنه ميثاق سابق للزمن، تآلفت فيه الأرواح قبل أن تتشكل الأجساد. 

ذلك النوع من اللقاء... لا يحتاج وعدًا، لأن الوعد فيه قائم منذ الأزل.

وحين يتقاطع القدر مرتين، لا يتكلم الناس بل تتكلّم الأرواح.

أيُّ لغةٍ هذه التي تتحدثها الأرواح حين تصمت الشفاه؟ 

أيُّ نحوٍ خفيّ يترتب في العيون،

كأن الأرواح تكتب بلغة لا تُدرّس، ليترجم ما تعجز عنه الأصوات؟

 

جعلتِ العلاقة... ترتقي من الحاجة إلى الحكمة. 

لم تعودي تريْن فيها مأوى من العزلة، وإذا بها تتحوّل إلى مدرسة لتعلّم الوجود. 

تحوّل الحديث بينكما إلى تبادل نورٍ لا كلمات، 

وإلى فهمٍ يتخلّق في الصمت لا في البوح. 

كأنما الأرواح تتواطأ على معنى لا يحتاج نطقًا، 

إنه حضورٌ يتجاوز النطق. 

 

أليس هذا هو السرّ؟

أن تكونا قادرين على سماع الغياب؟

ففي لحظة الإصغاء تلك، يتلاشى الفرق بين الصوت والصدى،

ويولد من الصمت حوارٌ آخر، لا يُسمع إلا بالقلب.

فحين يصغي الغيابُ للغياب، يتولّد الفهم الأعمق،

ذلك التعليم المتبادل... الذي لم يكن درسًا في العاطفة،

بل درسًا في الإنسان نفسه.

 

علّمكِ العابر عن الكون أكثر مما فعلت الكتب، 

وعلّمتِه أنتِ عن ذاته ما لم تبح له الحياة به من قبل. 

كنتِ له الباب الوحيد في عالمٍ ضاقت فيه الأبواب، الباب الذي لا يؤدي إلى مكان، 

بل يفتح على الداخل، إلى سلامٍ داخلي يَعرفه القلب ولا يصفه اللسان.

 

وحين واجه نفسه أخيرًا، لم يجد مفرًا من الاعتراف:

"لكني خنت نفسي حين اخترت الصمت".

كانت تلك المواجهة ثمرة إيمانكِ به،

فحين وثقتِ به أكثر مما وثقتِ بنفسكِ، لم تكوني تمنحين ثقةً لشخص،

بل كنتِ تؤمنين بالمكان الوجودي الذي يجعلكِ تشعرين بالأمان، 

بالمساحة التي تقول لكِ: 

"هنا يمكنكِ أن تكوني كما أنتِ، دون أقنعة، دون خشيةٍ من الرفض، دون حاجةٍ للتبرير".

لكن المعنى الأعمق كلّه يتكثف في تلك الجملة الخالدة: 

"ستكونان لبعضكما مرآة، لا مأوى".

 

يا له من إدراك ناضج! 

فالمأوى يريحكِ، لكنه قد يقيّدكِ، أما المرآة فتقلقكِ لتجعلكِ تنضجين. 

المأوى يضمّكِ كي لا تهربي، والمرآة تواجهكِ كي لا تغفلي. 

إنها تضعكِ أمام نفسكِ بلا مكياجٍ روحي، بلا مبرراتٍ أو أعذار، 

لتري ما كنتِ تخفينه خلف التمنّي والتأجيل.

 

كنتِ له المرآة النقية التي كشفت ملامحه كما هي، لا كما أراد أن يراها. 

ومن خلالكِ، واجه العابر حقيقة نفسه، واعترف أخيرًا بخيانته للصوت الذي كان يسكنه.

تلك الخيانة لم تكن خيانة لكِ، 

إنها خيانة للحياة التي كانت تنتظره في كلمة، في صدق، في مواجهة.

 

حتى الصمت بينكما كان نوعًا من اللغة. 

لم يكن هروبًا ولا جفاء، بل رفقًا عميقًا لا يُقال بل يُفهم. 

سكنا في صمتٍ واحدٍ كأنهما في صلاة، 

يتنفس كلٌّ منهما من صدر الآخر دون أن يتكلما. 

فالصمت بين الأرواح التي تعانقت بصدق لا يعني الغياب، 

بل الإقامة في الأعماق. 

 

وحين تسكن الأرواح، لا ترحل.

إنها تبقى، تنبض في الهواء، وتُزهر في الفصول اللاحقة من العمر.

ومن بقاء هذا النبض، وُلدت الحكاية التي لم تنتهِ:

 

كانت هي النور، وكان هو العابر: 

روحان لم تبحثا عن بعضهما بالخرائط، 

بل وجدتا نفسيهما في المدى ذاته، 

حيث اللغة ضوء، والصمت حوار، والعلاقة ليست ملاذًا، 

إنها مرآة لا تعكس الملامح، بل تكشف الطريق إلى الذات.

 

 

حين يتحول الإنسان إلى منفى متجول

 

يا عابر الأزمنة والمنافي، 

كنتَ تشبه السؤال نفسه؛ 

تمشي بلا ظلّ، وتكتبُ اعترافاتك على رمالٍ تمحوها الريح قبل أن تُقرأ. 

وحين قلتَ: 

"ما خنتها يومًا، لكني خنت نفسي حين اخترت الصمت"، 

كنتَ في الحقيقة تعلن موتًا صغيرًا؛ 

موت الكلمة التي لم تُقال، والفرصة التي وُئدت في عمق الحلق.

 

الصمت لم يكن حيادًا، إنما كان شكلًا راقيًا من الخوف. 

خفت أن تجرح، فآثرت أن تختنق.

خفت أن تفقد الصورة النقية، فسمحت للوجع أن يتكاثر داخلك في صمتٍ مقدّس.

ولم تكن وحدك في هذا الصمت؛ فكم من الأرواح خافت أن تُرى على حقيقتها.

وما أدقّ عبارتك تلك، فهي ليست اعترافًا بالعجز، 

إنها مرآة لعصرٍ بأكمله، 

عصرٍ يعلّم أبناءه كيف يخونون ذواتهم بمهارة، تحت لافتة التحمل والتسامح والتعقّل.

 

كنتَ يا عابر، ابنًا للأرض التي لم تعترف بك. 

تسير فوق ترابها كالغريب، 

تحمل جوازاتٍ لا تُثبت انتماءك، وأسماءً لا تفتح لك بابًا واحدًا.

 

جُعلتَ ابنًا للشمس،

كلما اقتربت من وهجها احترقت،

وكلما ابتعدت عنها تجمّدت،

فلا دفءٌ يكتمل، ولا ظلٌّ يليق بك.

ومن فرط هذا التناقض، صار الوطن نفسه لغزًا،

لا يحتويك، ولا خريطة تُشير إليك.

وكلما حاولت أن تزرع جذورك، 

جاءتك يدٌ تقتلعها وتقول: 

"ليس هنا".

 

تلك الجملة التي همست بها في صمتك الموجع: 

"أنا لا أنتمي إلى كوكب الأرض، الأرض لفظتني منذ البداية"، 

لم تكن شكوى، 

إنها صرخة كونية لإنسانٍ لم يمنحه العالم تربةً يقف عليها. 

حوّلتك الحدود إلى منفى متجول، 

وجعلت منك كائنًا بلا مكان، يتنقل من مدينة إلى أخرى كفكرةٍ تبحث عن جسد.

 

أي انتماءٍ هذا الذي يُقاس بالأوراق؟ 

أي هويةٍ تلك التي تُثبت وجودك بختمٍ حكومي وتُنكره حين تَرحل؟ 

صار العالم — كما كتبت مرة — مصنعًا للأقنعة، 

حيث يُقاس الإنسان بما يَملك لا بما يشعر، بما كُتب في وثيقته لا بما نُقش في روحه.

 

لكن، وسط هذا الضياع، كانت هي النور تقول لك في حنوٍّ حكيم: 

"أخطأت حين ظننت أن الصمت يحميك... لكني كنت وطنك، فلماذا غادرت؟"

 

لم تكن توبّخك، وإنما تُذكّرك بالجوهر: 

أن الوطن الحقيقي لا يُرسم على الخرائط، بل يُقام في القلب. 

كانت تعرف أن لجوءك إلى "كوكبٍ آخر" لم يكن هروبًا من الأرض، 

بل هروبًا من الخذلان الإنساني الذي جعل الأرض تضيق على أهلها.

 

هي كانت ترى ما لم تره أنت: 

أن كل إنسانٍ يحمل وطنه في داخله، لكننا ننساه حين نصمت كثيرًا. 

كانت تحاول أن تعيدك إلى نفسك لا إليها، 

إلى المساحة التي تستطيع أن تتنفس فيها دون خوف من الطرد.

وحين كتبتَ: 

"أبحث عن مكانٍ لا يسألني من أين أتيت، بل يسألني إلى أين أذهب"، 

أجابتك دون كلام:

"ذلك المكان فيك، لا حولك".

كانت كلماتها — أو صمتها بالأحرى — كنافذةٍ تُفتح على وعيٍ جديد،

كأنك سمعتَ للمرة الأولى صوتك الداخلي بعد طول غياب.

عندها، أرادتك أن تعود لا إلى حضنها،

بل إلى وعيك الأول، إلى النواة التي لم تُلوثها الهزائم بعد. 

لأن الهروب ليس إلى كوكبٍ آخر، 

وإنما إلى جوهرٍ أقدم من الأرض نفسها، حيث كان الإنسان قبل أن تُصاغ له الأوطان.

 

وجرحك، يا عابر، 

أعمق من اللغة، والوجع فيك أكبر من الشرح، 

لكنّها طلبت منك أن تجعل اللغة جسرًا لا سجنًا. 

قالت لك في صمتها المضيء: 

"اكتب لتُبعث، لا لتبرر".

 

وهكذا بدأت تفهم أن العودة لا تكون إلى من نحب، 

بل إلى الذي كنا عليه قبل أن نخاف من الحب. 

أن الكتابة ليست حنينًا، بل ولادة ثانية. 

فالنور لم يطلب منك أن تعود عاشقًا، 

بل شاهدًا على أن الإنسان يمكن أن يُبعث من رماده، 

إن هو تجرأ على مواجهة نفسه، لا على معاتبة العالم.

 

 

فلسفة الصداقة مع القدر

"من مرافقة الألم إلى تلمذة الغيب"

 

بعد العبور الطويل في ظلال الخوف والبحث،

يا نور الوعي الهادئ، 

وصلتِ إلى النقطة التي لم يعد فيها العيش مجرد استجابةٍ للظروف، 

هو اختيارٌ ناضج للمقام في الوجود. 

لم تعودي تركضين وراء ما يفلت، بل تتأملين ما يُفلت لتعرفي لمَ أفلت أصلًا. 

وحين قلتِ: 

"حين نصير أصدقاء للقدر، لا نعود نركض في الاتجاه الخاطئ"، 

كنتِ تُعلنين بداية طورٍ جديد من الحكمة؛ 

طورٍ يُعاش فيه الألم كمعلمٍ لا كعقوبة، والغياب كعلامةٍ لا كفقد.

 

قبل أن تفهمي الصداقة مع القدر،

كان عليكِ أن تجلسي طويلًا في صمت الجرح،

أن تصغي لأنين الأيام حتى تكتشفين أن كل ألمٍ كان يكتبكِ من جديد.

عندها فقط أدركتِ أن تصادقي القدر،

يعني أن تقبّلي يد الغيب التي نزعت منكِ شيئًا، لا لأنكِ استسلمتِ، 

بل لأنكِ أيقنتِ أن ما يُؤخذ منكِ هو في الحقيقة ما كان سيؤذيكِ لو بقي. 

الصداقة مع القدر ليست سلامًا من الضعف، 

إنها شجاعةٌ من نوعٍ نادر؛ شجاعة من تعلّم أن يثق بما لا يرى، وأن يُحب ما لا يفهم بعد.

 

وحين همستِ لنفسكِ: 

"تعلمتُ أن أتفكّر كما لو أنني أتعلّم من الله مباشرة"، 

كنتِ تُعلنين لحظة الانفصال عن كل وسطاء المعنى. 

لم تعودي تكررين أقوال الآخرين، 

بل صرتِ تستمدين فكرتكِ من النبع الأول، من الحوار الصامت بين القلب والسماء. 

لم تعودي "ابنة الإنسان" المقيدة بالخيبات والتوقعات، 

بل تلميذة الله التي تفتح دفترها على ضوء الفجر وتقول: 

"علّمني كيف أرى، لا كيف أطلب".

 

ومن هنا بدأت ولادتكِ الجديدة. 

لم تعودي تبحثين عن صورةٍ تشبهكِ في الآخرين، 

لأنكِ أدركتِ الحقيقة التي أنارت وعيكِ: 

"أنا لست الشبيه، أنا الأصل".

عبارةٌ كأنها صدى البدء الأول،

أضاءت أركانكِ المظلمة،

وجعلتكِ تبتسمين للمرايا التي كانت تخيفكِ.

 

ليست كبرياء، ولا نزعةَ غرور،

بل وعيٌ بالبصمة الإلهية فيكِ؛

أنكِ النسخة الوحيدة التي وُجدت لتؤدي نغمتها الخاصة في سيمفونية الوجود، 

لا لتكرّر صدى غيرها.

 

عندها فقط، صرتِ تعرفين أن الوحدة ليست وحشة،

بل وطنٌ داخلي لا تهزّه الرحلات ولا الرحيل. 

لم تعودي تخافين من المسافة، 

لأنكِ صرتِ تسكنين في مركزكِ، حيث لا زمن ولا غياب.

 

ومن رحم هذا الإدراك وُلد مشروعكِ الأجمل: 

أن تحولي خلاصكِ الشخصي إلى خلاصٍ جماعي. 

لم تكتفي بالنجاة وحدكِ، بل أردتِ أن تُعلّمي العابر كيف يجد وطنه أيضًا.

 

كنتِ تقولين له: 

"اصنع وطنك بالكلمة، لا بالأوراق. 

علّم الأطفال أن اللغة ليست قواعد فقط، بل بيت يسكننا حين يطردنا العالم".

 

وكان في قولك ما يتجاوز الوصية إلى الرؤيا؛

إذ لم تكوني تكلّمينه وحده، بل الإنسان كله في صوته،

كأنكِ تزرعين في الحروف بذرة خلاصٍ صامتة.

من تلك البذرة، وُلد المعنى الجديد للحب.

 

حولتِ الحب من شعورٍ شخصي إلى قوة خالقة، 

من حنينٍ إلى مشروعٍ يُنبت حياةً جديدة. 

ذلك هو الحب الذي يرفع ولا يرفق، 

لأنه يطلب من الإنسان أن يصير أعلى من نفسه، 

لا أن يستظل بها.

 

غفرتِ للعابر لا لتُريه التسامح، 

بل كي تُعلّميه أن الغفران هو آخر مراحل النضج، 

وأن النور الحقيقي لا ينتظر شكرًا، لأنه يُضيء ليُضيء فقط.

 

 

الوجهان لرحلةٍ واحدة

 

في نهاية الرحلة، حين هدأ الغبار وسكنت الأصوات، 

بدت الصورة أكثر صفاءً: 

هي النور، وهو العابر، لم يكونا شخصين منفصلين، 

إنهما تجلّيان لرحلةٍ إنسانية واحدة. 

هو كان السؤال العاري الذي يبحث عن بيتٍ للمعنى، 

وهي كانت الإجابة التي تعلمت أن تُضيء دون أن تمتلك، دون أن تُطالب، دون أن تُقيد.

 

التقيا لا ليُكمل أحدهما الآخر، 

بل ليُذكّر كلٌّ منهما الآخر بما نسيه. 

هي ذكّرته أن في داخله وطنًا ينتظر الاعتراف، 

وهو ذكّرها أن النور بلا تجربةٍ يُصبح عابرًا هو الآخر.

 

وحين انتهت الحكاية، لم يكن هناك وداع، 

لأن الأرواح التي تعانقت بالصدق لا تفترق، 

بل تتحوّل إلى أصداءٍ تسكن العالم، 

تُسمع في لحظات الإدراك، وتُزهر في قلوب من مرّوا بالوجع ذاته.

 

الخلاص لم يكن بالهروب إلى كوكبٍ آخر، كما أراد هو يومًا، 

وإنما بالعودة إلى الجوهر الأول الذي سبق كل هزيمة. 

أن نكون "أصدقاء للقدر" يعني أن نتصالح مع الجرح كضرورة، ومع الانتظار كهبة. 

أن نقبل أن بعض النهايات ما هي إلا أبواب إلى بداياتٍ أكثر صفاءً.

 

وهكذا انتهت الرحلة كما بدأت: 

بهمسةٍ من النور تقول للعابر: 

"كل ما فقدته كان طريقًا لما ستجده، فاشكر الطريق ولو جرحك". 

فابتسم العابر، وأجابها من عمقٍ جديدٍ في روحه: 

"الآن عرفتُ، أن الهزيمة الأولى كانت ولادتي الحقيقية".

 

وفي تلك اللحظة، لم يعودا "هي" و"هو"،

بل أثرًا واحدًا يتردّد في نَفَس الوجود،

كأن النور والعابر قد ذابا في معنى واحد،

توقيعًا لا يُرى، لكنه يُشعّ كلما مرّ إنسانٌ بتجربتهما،

باحثًا عن مرآته في زمنٍ نسي كيف يرى نفسه.

ومع كل فجرٍ جديد،

يولد من ذلك الأثر ضوءٌ آخر،

كأن الحكاية لم تنتهِ، بل بدأت الآن،

في قلب كل من يقرأها.

 

 

جهاد غريب

أكتوبر 2025

متلازمة البناء المتهالك

  متلازمة البناء المتهالك   "كيف نُهدر الجودة باسم الإنجاز، ونقتل المستقبل بالسرعة المُقنّعة بالغش المؤسسي؟"   هذه الوثي...