الجمعة، 9 مايو 2025

الحب حين يصمت العالم!

 
الحب حين يصمت العالم!

حين يتهاوى الوقت كجناح طائرٍ هرِمٍ... نسي كيف يعلو، ونحاول لاهثين أن نلملم من الأرض ما تساقط من أعمارنا، ندرك فجأة أن الطفولة لم تودعنا، بل نحن من طويناها بين دفتي النسيان. 

لا نكتشف أننا كبرنا إلا حين نعود إلى الخلف فلا نجد إلا ظلالاً ترتجف في صمت، تطاردنا كأشباح أحلامٍ أُجهضت ذات انتظار. 

نمد أيدينا إلى الوراء، نرجو أن نلمس دفءَ ضحكةٍ قديمة، أو بقايا وجهٍ كان يومًا يسكب علينا الحنان كالمطر، فلا نجد إلا فراغًا يشبه حضنًا شاغرًا، أو قلبًا ظلّ يحب حتى نضب، يشبه قلبًا أحبّ ذات زمن، ثم توقّف عن النبض بصمتٍ مؤلم.

في منتصف الطريق، على قارعة العمر، نكف عن طلب الفرح... ونبدأ في التوسل للسلام. نريد من يسمع صوت أرواحنا لا ضجيج أفواهنا، من يحتضن قلقنا دون أن يطلب تفسيرًا. لم نعد نريد من يُهدي زهورًا، بل من يبقى حين تذبل كل البساتين. من يرى في خيباتنا لحظات نضج لا مناسبات للفرار. من يصمت معنا لا لأن لا شيء يُقال، بل لأن البقاء أبلغ من أي كلمة.
كم مرة ضحكنا ونحن نكاد نموت من الداخل؟ كم مرة غطّينا على جراحنا بكلمة "أنا بخير" كي لا نفسد على أحدهم يومه؟ كم مرة كذبنا على أنفسنا، فقط لنحافظ على من لا يستطيعون حمل صدقنا؟

الأيام تمضي، لا على عجل، بل بخطى مدججة بالخسارات. لم نعد نريد من يحبنا في صورنا المثالية، بل من يحتملنا حين نكون هشّين كزجاجٍ خائف من السقوط. من يقف بجانبنا لا لأننا الأقوى، بل لأنه يعلم أننا تعبنا من الصمود. 

نريد دفئًا لا يُشترى، ووفاءً لا يذوب مع أول شمس. نريد أن نشعر أن أحدهم، في مكانٍ ما، يضيء لنا شمعة كلما أظلمت دواخلنا، أن نغفو على كتفٍ يشبه الوطن، ونصحو على همسةٍ لا تسأل، بل تقول: "أنا هنا، لا لشيء، سوى لأنك تحتاج من يبقى."
نريد من يبقى... لا حين نكون في أبهى حالاتنا، بل حين نكون في الحضيض، متشظّين من الداخل كمرآةٍ سقطت من يد الأمل. من لا يهرب حين تغيب الكلمات، ولا ينكسر أمام دموعٍ تنهمر فجأة، من لا يطلب شرحًا، بل يمنح غفرانًا يشبه الرحمة.
نريد أن نُحَبّ لا لأننا نحسن التمثيل، بل لأننا نكون أنفسنا تمامًا: فوضويين، بائسين، متعبين، وفي أعيننا رجاء خافت كضوء القمر في ليلةٍ بلا نجوم.

لقد أرهقنا التمثيل، وأتعبنا الصمود، وسئمنا الحب المشروط بموعدٍ ومزاجٍ ووقت فراغ. صرنا نبحث عن ذلك الحضور الصامت، الصادق، الحنون... حضورٌ لا يطرق الباب، بل يسكن القلب، ويعيد ترتيب فوضاه دون ضجيج.

أردنا الأمان، لا كخيمةٍ مؤقتة تحمينا من عاصفة، بل كجدارٍ نُلقي عليه رؤوسنا ونبكي دون خجل. أردنا علاقةً تُشبه الصلاة... خفيفة على القلب، ثقيلة بالمعنى، لا تُرى، لكنها تغيّر كل شيء.

ولأننا عرفنا الخيبة، تذوّقنا غياب من لم يُقدّر، وركضنا خلف من لم يلتفت، صرنا لا نريد كثيرًا... فقط من يرى جرحنا دون أن نصرخ، من يربت على ظهورنا حين يسقط كل شيء، ويهمس: "ما زلتُ هنا، ولن أتركك وحدك في العتمة".

لا نريد حبًا يُكتب في الرسائل ويُنسى، بل حبًا يُعيش في التفاصيل الصغيرة... في كوب قهوة يُعد بصمت، في سؤالٍ عابر فيه الكثير من القلق، في نظرةٍ مطمئنة تقول كل ما عجزت اللغة عن قوله.

نريد شخصًا حين نتهاوى، لا يرمّمنا، بل يجلس معنا على الأرض ويقول: "دعنا ننهار معًا، وسأبقى حتى تقوم".

لأن الحب الحقيقي لا يشبه القصص... بل يشبه الحياة حين تتجلى في لحظة صدق، لا تحتاج بطلًا ولا نهاية سعيدة، بل قلبًا حاضرًا في العتمة.

كثيرًا ما جلسنا نعدّ ما خسرناه في الطريق: صداقات تآكلت في صمت، قلوب انسحبت دون عذر، ووعود كانت أكبر من قدرة أصحابها على الوفاء، لكن رغم كل ذلك، ما زال فينا ذلك الطفل الذي يؤمن أن الحب ممكن، وأن خلف كل هذا الرماد جمرة باقية. 

نُخفي هذا الأمل تحت طبقات من الحذر، لكن في أعماقنا، لا نزال نحلم بذلك الحضور الدافئ الذي لا يسألنا أن نكون بخير، بل يكون بخير لأنه معنا. 

عندها فقط، نعود بالذاكرة إلى البدايات، إلى الأيام التي ظننا فيها أن الحب عصا سحرية تكفي لأن نُشفى من كل شيء، أن من يهمس "أحبك" لا يرى شكلنا بل يلمس ذواتنا، يسمع صمتنا كأن فيه ترنيمة، ويفهم بكاءنا في لحظات الفرح، وصمتنا في لحظات الانهيار. 

لكن الأيام علمتنا أن الحب وحده كطوق نجاةٍ مكسور… لا ينقذك حين تغرق، بل يجعلك تتشبث بالوهم أكثر. صرنا نبحث عن من يفكّ شيفرة وجوهنا، عن من يقرأ وجعنا من طريقة تنفسنا، عن عينٍ واحدة فقط، تنظر إلينا كأنها ترى كل من غفل عنا، كل من عبرونا دون أن يلتفتوا لقلوبنا المكسورة.

صرنا نبحث عن نصف ضائع يشبهنا… عن عينين تترجم وجعنا قبل أن ننطقه، عن روحٍ تسبقنا إلى الحزن وتحمله معنا لا من أجل الشفقة، بل لأن هناك ميثاقًا غير مرئي يُلزم القلوب النقية بالبقاء. 

نبحث عن ذلك الوجه الذي لا يفرح حين نكون بخير فقط، بل يعبس حين تنهشنا الحياة دون أن نقول كلمة، وعن صوتٍ لا يعلو، لكنه يصل، لأننا نعرف أنه من قلبٍ يشبه بيت الطفولة: آمن، دافئ، لا يغلق بابه مهما تأخرنا في العودة.

وفي منتصف العمر، ندرك أن الجمال ليس في الملامح، بل في من يبقى حين تنطفئ الملامح. أن الأمان ليس في قوة الأذرع، بل في يدٍ ضعيفة لا تفلت يدك وأنت تسقط. السعادة لم تعد وردة تهدى في الربيع، بل يد تُمدّ لك في الخريف لتقول: "أنا هنا حتى وإن ذبلتَ". 

نحتاج إلى علاقةٍ لا تنبض فقط حين نضيء، بل تبقينا أحياء حتى ونحن نتحلل في العتمة، ونذبل في صمت. نريد من يرى في هشاشتنا سببًا للحنان، لا عبئًا يفر منه.

كم مرة ضحكنا ونحن ننكسر من الداخل؟ كم مرة خنقنا شهقةً كي لا نربك من نحب؟ كم مرة ابتلعنا حزننا لأننا نعلم أن لا أحد يفهم لغته سوانا؟ نحن الذين نخاف أن نكون ثقيلين، فصغّرنا أحلامنا حتى لا نُرهقهم، وقصصنا أجنحتنا كي لا نحلّق بعيدًا عنهم… ثم خذلونا حين تخلّينا عن أنفسنا من أجلهم.

الزمن لا يرحم، والقلوب لا تُصلح كل مرة، والخذلان حين يتكرر يتحول من صفعة إلى هوة. ونحن لا نطلب الكثير، فقط أن نُحَب كما نحن، أن نُحمَل لا أن نُحتمل، أن نجد من يقول لنا في أقسى لحظاتنا: "ابق كما أنت، فأنا اخترتك بكل ما فيك". نريد من يفهم أن الإنسان ليس عظمةً تُرمم، بل شعورٌ يُحتضن، صوتٌ يبحث عن حضنٍ لا يرتجف.

وفي نهاية الرحلة، بعد كل تلك الطرق المتعرجة، وبعد أن فقدنا قطعًا من أرواحنا هنا وهناك، نكتشف أن ما نريده ليس من يكمّلنا، بل من يعيد إلينا ما فقدناه من أنفسنا. من يرممنا لا بالجدران، بل بالأمان. من يجعلنا نشعر أن الكمال لم يكن يومًا هو الهدف، بل الصدق، والوفاء، والبقاء حين لا يكون هناك سبب للبقاء سوى الحب. 

وحين نبلغ تلك الحقيقة، نكفّ عن الركض، ونقف بهدوء لنقول لأنفسنا أولًا: "أنا أستحق أن أُحب دون أن أشرح، وأن أُحتضن دون أن أطلب، وأن أُفهم حين يصمت صوتي وتتكلم ملامحي وحدها.

كن كما أنت، وكن لنفسك أولًا، فمن عرف قيمتك لن يتركك حتى ولو أفلتّ يده، فالحب الحقيقي، ليس وعدًا يقال، ولا صورة تُعلّق، ولا كلماتٍ مُنمّقة في لحظة صفاء. 

الحب الحقيقي هو ذاك الذي يبقى حين تنهار كل الكلمات، ويصمد حين لا يبقى فيك شيءٌ صالحٌ للعطاء. هو من يراك تنهار في صمت، ويحبك أكثر. هو من يعرف أنك لست بخير، حتى وأنت تبتسم، من لا يسألك لماذا تغيرت، لأنه تغيّر معك وبقي. هو الذي إذا انطفأت فيك الحياة، أشعل فيك روحه دون أن يطلب شيئًا.

نحن لا نبحث عن نصفٍ يكملنا، بل عن قلبٍ يقول لنا حين تتكاثر الخسارات: "ابقَ كما أنت... فأنا هنا، ولن أتركك، حتى وإن تركتَ نفسك".

جهاد غريب 
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسرار البوح.. حين تتحول الكلمات إلى جروح نختارها بأيدينا!

  أسرار البوح.. حين تتحول الكلمات إلى جروح نختارها بأيدينا!  كم من كلمةٍ أطلقناها بثقةٍ عمياء، فعادت إلينا كسهمٍ مسموم؟ كم من سرٍّ دفعناه إل...