الأحد، 9 مارس 2025

 

رحلة البحث عن السكينة: بين وعورة الطريق ونور الداخل!

 

رحلتنا في هذه الحياة ليست سوى مسار طويل من التحديات، وطريقٌ وعرٌ يمتد بين محطات الأمل والانكسار، وبين قسوة الواقع ورغبتنا الملحّة في الوصول إلى السكينة والسلام!، نبحث في كل خطوة عن لحظة راحة، عن نسمة طمأنينة تهدهد أرواحنا، لكن الهمّ، ذلك العدو الذي لا يفنى، يلاحقنا كما يلاحق الظل صاحبه، يطوّق أيامنا، فيجعلها تتساقط كأوراق الخريف، ذابلةً تحت أقدام الزمن!، إننا نجتهد في رسم خارطة طريق تؤدي بنا إلى بر الأمان، ولكن كل منعطف يخفي خلفه اختباراً جديداً، وكل استراحة قصيرة تسبقها رحلة أخرى من الكدّ والتعب، ومع ذلك، نحن ماضون، لأن في أعماقنا إيماناً بأن الراحة قد تكون في السير ذاته، لا في الوصول.

 

لكن، ألسنا جميعاً في رحلات شاقة؟ كلٌّ منا يحمل حقيبة أثقلها الزمن بتجاربه، هناك رحلات نفسية، نخوضها مع ذواتنا، في محاولات لفهم أنفسنا والصلح مع ماضينا!، كل ذكرى تفتح باباً نحو أعماق لم نستكشفها بعد، وكل لحظة تأمل تُعرّينا أمام أنفسنا، تكشف لنا ضعفنا، وأيضاً قوتنا الخفية.

 

وهناك رحلات اجتماعية، حيث نُختبَر في علاقاتنا، ونكافح لنحافظ على خيوط المودة من التمزق، نُجرَح ونَجرح، نَخذل ونُخذل، ومع ذلك، نمضي متشبثين ببعضنا البعض، لأن الوحدة أشد قسوة من خيبات العلاقات!، ورحلات مهنية، نصعد خلالها جبال الطموح، نتهاوى أحياناً، لكننا ننهض من جديد، لأننا نؤمن بأن الجهد لا يضيع هباءً، وأن كل خطوة، مهما كانت صغيرة، تقرّبنا من أحلامنا، أما الرحلة الروحية، فهي الأصعب، حيث نقف في مواجهة أرواحنا، نبحث عن إيمان يشدّنا حين تتلاشى يقينياتنا، ونسائل الغيب، ونحاور المجهول، ونُصارع الشكوك، ونتمسك ولو بخيط رفيع من الأمل، لعلّه يقودنا إلى نور اليقين.

 

أصعب الرحلات هي تلك التي تجري في دواخلنا، حيث لا رفيق سوى أفكارنا، ولا دليل سوى أصواتنا الداخلية التي تهمس أحياناً، وتصرخ أحياناً أخرى!، فنخاف من المجهول، ومن فشل لم يقع بعد، ومن وحدةٍ نخشى أن تحاصرنا!، القلق يتشبث بنا، يعكر صفو لحظات السعادة، كأنما يرفض أن يتركنا ننعم بسلام، لكن، كما قال دوستويفسكي: "أشد اللحظات ظلمة هي التي تسبق بزوغ الفجر". علينا أن نؤمن بأن العتمة، مهما طالت، لا تستطيع ابتلاع النور إلى الأبد، وأن الخوف، مهما استبد بنا، لن يكون أقوى من إرادتنا.

 

ليس العالم من حولنا وحده من يصعّب الرحلة، بل المجتمع أيضاً، بتوقعاته وضغوطه!، نعيش وسط معايير مرسومة بدقة، يُفرض علينا أن نكون كما يريد الآخرون، لا كما نحن!، فتفرض علينا الأدوار، ونجد أنفسنا ممثلين في مسرحية لم نكتبها، وحين نحاول التحرر، نُتهم بالتمرد، لكن، أليس السير عكس التيار أحياناً هو الطريق الوحيد للنجاة؟ قال نيتشه: "من لا يملك شجاعة العصيان، لن يكون حراً أبداً". إن تحررنا يبدأ من داخلنا، من لحظة نكف فيها عن محاولة إرضاء الجميع، ونقرر أن نكون ذواتنا، كما نحن، بلا أقنعة، وبلا زيف.

 

رغم وعورة الطريق، ثمّة ما يعيننا على الاحتمال!، الأشخاص الذين يأتون كالنسيم، أولئك الذين يحضرون في لحظات الانطفاء ليعيدوا إلينا شيئاً من الحياة، نكتب لهم رسائل لا تصل، ونهمس: "لا تطِل الغياب، فأنت من يرمم تصدعات الروح". وجود هؤلاء ولو للحظات يمنح الرحلة معنى، ويجعل الأعباء أخف، والمخاوف أقل وطأة. الحب، والصداقة، يدٌ تمتد في الظلام، كلها مصابيح تنير الدرب، لعل الحياة ليست سوى لحظات دفء نختزنها في صدورنا، ونستعين بها حين تباغتنا العواصف.

 

لا تكمن الراحة في نهاية الرحلة، بل في القدرة على إيجاد لحظات صغيرة من السكينة وسط الفوضى!، حين نُدرك أن الحياة ليست بحثاً عن السعادة المطلقة، بل عن المعنى، نصبح أكثر استعداداً للمضيّ رغم العثرات. فيكتور فرانكل قال: "إن الإنسان مستعد لتحمل أي شيء، إذا كان يعلم أن لمعاناته معنى". حين نجد ذلك المعنى، تتحول العقبات إلى دروس، والآلام إلى قوة خفية تدفعنا للأمام!، فليس السؤال هو كيف نتجنب الألم، بل كيف نحوله إلى نور، وإلى طاقة، وإلى دافع يجعلنا نستمر.

 

المرونة هي ما يجعلنا قادرين على التكيف!، لا شيء يبقى ثابتاً، والمطر لا يهطل إلى الأبد، حتى أصعب الأيام ستمضي، والمفتاح هو ألا نقاوم التيار، بل أن نتعلم السباحة فيه، ففي مواجهة المصاعب، لا بأس أن نأخذ نفساً عميقاً، وأن نستسلم للحظة، لكن دون أن نفقد الرغبة في النهوض. يقول مانديلا: "الأمر يبدو مستحيلاً حتى يتم تحقيقه". لنؤمن أن الأفق، مهما بدا بعيداً، ليس مستحيل الوصول إليه، وأن الأمل، مهما بدا واهناً، قادر على صنع المعجزات.

 

كيف يمكننا أن نجعل الرحلة أقل قسوة؟ علينا أن نحسن انتقاء من يرافقوننا، وأن نبني علاقات تمنحنا الدفء بدلاً من أن تثقل كواهلنا، وأن نؤمن بقدرتنا على تخطي العقبات، وأن نسمح لأنفسنا بالضعف حين نحتاج، ثم نستجمع قوانا ونكمل السير!، وأن نزرع في قلوبنا فسحة أمل، فنحن لا نسير وحدنا!، هناك دائماً من يعبر دربنا، ومن يترك أثراً، ومن يمنحنا لحظة صدق تعيننا على الاحتمال.

 

في النهاية، هذه الرحلة الشاقة، رغم كل ما تحمله من ألم، هي ما تجعلنا أكثر نضجاً، وأكثر فهماً لذواتنا!، قد لا يكون الطريق مفروشاً بالورود، لكن ربما في أشواكه ما يجعلنا أقوى. قال جبران خليل جبران: "الألم هو كسر القشرة التي تحيط بفهمنا". فلنسمح للحياة أن تعلّمنا، ولنمضي بثقة، فقد يكون الضوء الذي نبحث عنه، في الحقيقة، ينبع من داخلنا.

 

جهاد غريب

مارس 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

  على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!  لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك...