الاثنين، 3 فبراير 2025

 

بين الترغيب والترهيب: كيف نجعل الحضور اختياراً لا إجباراً؟

 

في كل صباح، تصدح الأجراس في أروقة المدارس إيذاناً بيوم جديد من التعلم، لكن خلف هذه الأبواب تتفاقم ظاهرة غياب الطلاب، كاشفةً عن أزمة تتجاوز مجرد غياب فردي إلى خلل في جوهر العملية التعليمية نفسها.

 

حين تصبح العقوبات والخصومات والتهديدات الوسيلة الأساسية!، لدفع الطلاب إلى الحضور، تتحول المدرسة من بيئة محفزة للعلم إلى ساحة تُدار بمنطق الجزاء، فتخسر بذلك وظيفتها الأسمى في بناء العقول، وصقل النفوس.

 

يقال إن "التعليم ليس ملء دلو، بل إيقاد شعلة"، فكيف لتلك الشعلة أن تشتعل في بيئة تفتقر إلى الإلهام؟ حين يكون الحضور مجرد التزام قسري لا انعكاساً لرغبة حقيقية في التعلم، فإن المشكلة لا تكمن في الطالب وحده، بل في منظومة لم تنجح في خلق الدافع الفعلي لديه.

 

مؤخراً، طرحت بعض وسائل الإعلام فكرة فرض غرامات مالية على الطلاب الذين يكثرون الغياب، باعتبارها وسيلة للحد من هذه الظاهرة، لكن هل يمكن للضغط المالي أن يحل مشكلة أساسها بيئة تعليمية غير محفزة؟

 

بدلاً من اللجوء إلى العقوبات المالية، أو التهديد بخصم الدرجات، يجب أن نتساءل: لماذا ينفر بعض الطلاب من المدرسة؟ هل لأن بيئتها غير جاذبة؟ أم أن المناهج لا تمت لاهتماماتهم بصلة؟ أم أن العلاقة بين المعلمين والطلاب فقدت عنصر التحفيز والتفاعل الحقيقي؟

 

الأسرة، باعتبارها الركيزة الأولى في حياة الطالب، تلعب دوراً حاسماً في تشكيل موقفه من التعليم، وبعض الغيابات لا تعود إلى المدرسة ذاتها، بل إلى مشكلات أسرية تتراوح بين عدم الاهتمام، أو الضغوط الاقتصادية التي تدفع بعض الطلاب إلى العمل، أو حتى أزمات نفسية تعيق تركيزهم.

 

لذا، من الضروري تعزيز وعي الأهل بأهمية دورهم في تشجيع أبنائهم على الالتزام بالدراسة، وخلق قنوات تواصل فعّالة بينهم وبين المدرسة لضمان متابعة مستمرة لمسيرتهم التعليمية.

 

أما المجتمع، فهو الحاضنة الكبرى التي تُكسب التعليم مكانته أو تسلبه إياها، فحين يعزز المجتمع قيمة التعلم، ويدعمه ببرامج إثرائية وأنشطة داعمة، يشعر الطالب بأن التعليم ليس مجرد التزام مدرسي، بل جزء أصيل من مستقبله، من هنا، يأتي دور الإعلام في نشر الوعي حول أهمية التعليم، وتسليط الضوء على النماذج الملهمة للطلاب والمعلمين الذين تجاوزوا التحديات وحققوا النجاح.

 

المعلم هو النواة التي يمكنها إشعال فتيل الشغف في قلوب الطلاب أو إطفائه تماماً!، المعلم الملهم لا يقتصر دوره على نقل المعلومة، بل يتعداه إلى خلق بيئة محفزة، تُشعر الطالب بقيمته، وتدفعه إلى البحث والتفكير، وحين ينجح في إقامة علاقة قائمة على الاحترام والتواصل الفعّال، يتحول الصف الدراسي إلى مساحة للنمو والاكتشاف.

 

المناهج الدراسية هي الأخرى تحتاج إلى مراجعة عميقة، فلا يمكن أن تكون مجرد مواد تقليدية لا تمت بصلة إلى واقع الطلاب وتطلعاتهم!، يجب أن تعكس المناهج متطلبات العصر، وأن تحفز التفكير النقدي وحل المشكلات، بدلاً من أن تكون مجرد صفحات تُحفظ دون أن تترك أثراً حقيقياً في عقول الدارسين.

 

الأنشطة اللاصفية عنصر أساسي في تعزيز ارتباط الطلاب بالمدرسة، فهي توفر لهم فرصة لاكتشاف مواهبهم وتطوير مهاراتهم الاجتماعية والشخصية، فعندما يشعر الطالب بأن المدرسة ليست مجرد مكان للدراسة، بل فضاءً ينمي إبداعه واهتماماته، يصبح الحضور رغبة لا فرضاً.

 

أما البيئة المدرسية، فلا بد أن تكون آمنة وداعمة، يشعر فيها الطالب بالراحة والانتماء، إذ لا يمكن أن نتوقع التزام الطلاب في بيئة تفتقر إلى الحد الأدنى من التحفيز، سواء من حيث المرافق الحديثة، أو الأسلوب التربوي المتبع، أو حتى المناخ العام داخل المدرسة.

 

العقوبات يجب أن تكون آخر الحلول، لا أولها!، إن اتباع نهج قائم على التحفيز والتقدير يمنح نتائج أكثر استدامة وتأثيراً، وعندما يدرك الطالب أن جهوده مقدرة، وأن اجتهاده لا يمر دون مقابل، فإنه سيحرص على أن يكون جزءاً من العملية التعليمية بكامل إرادته.

 

غياب الطلاب عن المدارس ليس مجرد خلل إداري في سجلات الحضور والغياب، بل مؤشر على مدى نجاح المدرسة في خلق بيئة جاذبة ومحفزة، فحين تصبح المدرسة مكاناً يجد فيه الطالب ذاته وطموحه، فلن يكون هناك حاجة للعقوبات أو الغرامات، لأن الغياب حينها لن يكون خياراً مطروحاً من الأساس.

 

أخيراً، إصلاح التعليم لا يبدأ من فرض القوانين، بل من الفهم العميق لحاجات الطلاب، والبحث عن حلول مبتكرة تجعل من الحضور إلى المدرسة اختياراً ينبع من رغبة صادقة في التعلم، لا خوفاً من العقاب.

 

جهاد غريب

فبراير 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العبقُ الذي لا تشتريه النار: تأمُّلاتٌ في صُنعِ البخورِ البشريِّ وعُقْدةِ الدخانِ الزائف!

  العبقُ الذي لا تشتريه النار: تأمُّلاتٌ في صُنعِ البخورِ البشريِّ وعُقْدةِ الدخانِ الزائف! (ثلاثون عامًا تحتَ لحاءِ الكلمات: كيفَ تُنتزعُ ر...