في أعين الخائفين: رحلة في أعماق النفس البشرية!
تخيل نفسك جالساً في مكان ما، سواء في العمل، أو
في البيت، أو في أي مكان آخر، وفجأة، يملأ أحدهم المكان بالصراخ المذعور، فيتردد
الصوت في أرجاء المكان، وتهتز الجدران وكأنها تئن من الألم، وتشعر بأن الهواء نفسه
قد تغير، وأن العالم قد توقف للحظة!، فتندفع نحو مصدر الصوت بسرعة، مدفوعاً بالقلق
والرغبة في المساعدة، وفي حين قلبك يسبق قدميك، تصل إلى الشخص الخائف، فتجد على
وجهه وعيونه، ملامح الرعب والهلع التي قد تفوق في حدتها السبب الذي جعله يصرخ في
المقام الأول.
قد توحي ملامح وجهه وكأنها تنتمي لشخص آخر!، شخص
لا تعرفه، أو ربما هو ذاته الشخص الذي اعتدت على رؤيته، لكن الآن، لا تستطيع أن
تتعرف على هذا الوجه الذي أصبح مشلولاً بالكامل، وكأن الزمن قد تجمد فيه، فملامحه
قد تحولت إلى أسوأ ما يمكن أن تراه، بينما كل عصب في وجهه قد انفصل عن الآخر، وعيونه،
التي كانت يوماً تعكس حياة وطموحات، باتت الآن غارقة في الفراغ، تبحث عن نجاة لا
يبدو أنها ستصل إليها، تلك العيون التي تقطر رعباً، والنظرة الحائرة التي تتلاطم
كأمواج البحر العاتية، لا تهدأ، وتجعل قلبك يتوقف، ثم ينبض بسرعة أكبر.
أما الصوت الذي انبعث منه، فكان يشبه قعقعة أشباح
غارقة في الظلام، صوتاً يبدو أنك تسمعه لأول مرة، بكل ما فيه من خوف وذهول، كما لو
أن هذا الصوت كان ينشأ من أعماق الكوابيس نفسها، مشحوناً بالألم والمفاجأة، فهذا
الصوت، الذي يمزق الصمت! ويتركك في حالة من الجمود، ويتردد في أعماقك، ويثير فيك
شعوراً لا تستطيع تفسيره، كما لو أن خوفه قد تسلل إليك مباشرة، فتصبح جزءاً من ذلك
الرعب الذي يحيط بك، ويغرقك في موجة لا يمكن الهروب منها.
قد تكون تلك اللحظة محورية في فهمنا لكيفية تأثير
الخوف على النفس البشرية، فإذا كانت تلك النظرة، التي تعكس هشاشة الإنسان، قادرة
على خلق حالة من الذعر في أعماقنا، فإن ذلك يفتح أمامنا تساؤلات عميقة حول طبيعة
الخوف وآلية تأثيره!، لماذا نخاف من ملامح الخائف؟ هل هي مجرد انعكاس لضعفنا
الداخلي، أم أن هناك قوة خفية تقبع وراء تلك النظرة التي تزرع الرعب في القلوب، فتلامس
أعماقنا؟
من الناحية النفسية، يمكن أن تكون ملامح الخائف
انعكاساً عاطفياً، تعكس اضطراباته الداخلية، وقلقه الذي يتسلل إلى عيوننا دون أن
ندرك ذلك، فقد يكون الخوف في نظرته أشبه بموجة تتسارع لتغمرنا، وقد تكون تلك
النظرة، عبارة عن تعبير يبعث على الأسى، وهي بمثابة استعارة لصراع داخلي لا نعرف
كيف نواجهه!، وتكمن القوة الحقيقية لهذه النظرة في قدرتها على خلق تأثير لا واعٍ
فينا، فتجعلنا نشعر بالخوف دون أن يكون هناك سبب مادي يبرر ذلك، وكأن الخوف يصبح
أكثر حدة عندما يرافقه الوعي به في عيون الآخر. تذكرني هذه الفكرة بما قاله
الفيلسوف نيتشه: "ما لا يقتلني يقويني"، فبمجرد أن نواجه خوف الآخرين،
نحن نختبر خوفنا الخاص ونتعلم أن نواجهه.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن ملامح الخائف وعيونه
المتسعة كانت كنافذتين على عالم من الرعب، تثير فينا مشاعر التعاطف والرأفة، وتفتح
أبواب القلق على مصراعيها، فنحن كبشر، نخشى المجهول، ونميل إلى التعاطف مع معاناة
الآخرين، خاصة عندما تكون هذه المعاناة واضحة وسافرة، فتصبح ملامح الخائف رمزاً
للخطر الذي لا نعرفه، وقد تؤثر فينا بطرق مختلفة.
في بعض الثقافات القديمة، تُعتبر ملامح الخائف
بمثابة علامة تحذيرية من الشؤم، أو المصائب المقبلة، وهذا يضيف طبقة من الإثارة
والخوف إلى تأثيرها، فإذا كانت تلك النظرة تحمل في طياتها إشارات لمخاطر، أو
تحديات غير مرئية، فإن القلق يزداد ويتضاعف.
كما، لا يقتصر تأثير ملامح الخائف التي تعكس
الذعر على مشاعرنا فقط، بل يمتد ليؤثر في سلوكنا، فقد تدفعنا هذه الملامح إلى
الاستجابة السريعة والمباشرة دون التفكير في العواقب، وفي أحيان أخرى، قد تجعلنا
نبتعد عن الشخص الخائف، هروباً من المشاعر السلبية التي تثيرها فينا، وأحياناً
أخرى، قد تخلق فينا شعوراً مبالغاً فيه بالتعاطف، مما يدفعنا إلى تقديم المزيد من
الدعم والمساعدة رغم محدودية قدرتنا، وفي كل هذه الحالات، تتكشف لنا جوانب من
شخصياتنا لم نكن على دراية بها.
الخوف، كما يبدو، ليس مجرد استجابة فطرية لمواقف
تهدد حياتنا، بل هو حالة تنبثق من تفاعلنا مع الآخرين!، لقد أصبحنا نعيش مع الخوف
كجزء من حياتنا اليومية، وفي نفس الوقت، تعلمنا أن نتحكم في ردود أفعالنا تجاهه، وما
يثيره فينا من مشاعر قد يكون درساً في كيفية تعاملنا مع الحياة. هل نندفع للمساعدة
بلا تردد؟ أم نتراجع بخوف؟ كيف يمكن أن نواجه خوفنا عندما يظهر في أعين الآخرين؟
إن ملامح الخائف التي تثير الفزع هي مرآة تبرز
لنا أعماق نفوسنا، فقد تكشف لنا عن ضعفنا المشترك، لكنها أيضاً تذكرنا بقوتنا
وقدرتنا على التغلب على الصعاب، ففي كل مرة نتجاوز مخاوفنا، نثري حياتنا، ونقترب
من شجاعتنا الظاهرة والخفية!، إن هذه النظرة الشاخصة بالخوف هي جسر بيننا وبين
الآخرين، وهي تفتح لنا أبواب التعاطف والنمو الشخصي، لأنها تذكرنا بأن الخوف ليس
عدواً، بل هو بداية الطريق نحو فهم أنفسنا، وتحقيق قوتنا الحقيقية.
عندما نفكر في الخوف من منظور ثقافي، ندرك أن
ردود فعلنا تجاهه تختلف من مكان لآخر، ففي بعض الثقافات، يُعتبر الخوف رداً طبيعياً
على المواقف التي تهدد استقرار المجتمع، بينما في ثقافات أخرى قد يُنظر إليه على
أنه عائق يمنع الفرد من التطور، وتتنوع أيضاً الطريقة التي يعرض بها الإعلام
مخاوفنا، فقد يساهم في تضخيم بعض المخاوف، أو توجيه انتباهنا إلى قضايا تثير القلق
الاجتماعي والسياسي، مما يجعلنا نعيش في حالة من التوتر المستمر.
وفي النهاية، يمكن القول إن الخوف ليس بالضرورة
شيئاً سلبياً!، فقد يكون محفزاً للأمل والتغيير، وهو التحدي الذي يدفعنا للبحث عن
حلول، وطرق جديدة للتعامل مع الحياة، وكما قال بودلر: "الجمال في عين
الساحر"، قد يكون الخوف هو الجمال الذي يكمن في أعيننا عندما نواجهه بشجاعة،
ليكشف لنا عن أبعاد جديدة من أنفسنا ومن الحياة من حولنا.
جهاد غريب
ديسمبر 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق