الانكسار: بين وجع البوح وقوة التوكل!
في لحظات الحياة الصعبة، حين يبدو العالم وكأنه يتهاوى من حولنا، نقف على
حافة الانهيار، حيث يتصدع القلب، ذلك الكائن الرقيق، كما لو كان زجاجاً سقط من علٍ،
فتتحطم الأحلام على صخور الواقع!، فنشعر بغربة عميقة حتى عن أنفسنا، تائهين بين ذكريات
الماضي المؤلمة وحاضر مثقل بأسئلة بلا إجابات!، في خضم هذا الألم، تظهر قوة البوح كطوق
نجاة، تضئ لنا درباً وسط العتمة، كنافذة صغيرة تُفتح في غرفة مظلمة ليتسلل منها نور
خجول.
الانكسار ليس مجرد لحظة ضعف عابرة، بل هو بوابة لفهم أعمق لذواتنا!، فحين
تتقاذفنا أمواج الذكريات المؤلمة، نجد أنفسنا محاصرين بصدى أصواتنا، تلك اللحظة تصبح
دعوة للبوح، ولتحرير ما يثقل الروح، والشروع في رحلة شفاء تعيد البناء، فتعلّمنا أن
النور، مهما بدا خافتاً، يحمل في طياته بدايات جديدة.
البوح في هذه اللحظة هو طوق النجاة
الوحيد، واليد التي تمتد من الظلام لتنتشل القلب قبل أن يغرق في وحل الأحزان!، قد
يكون الحبيب الذي خانه الوصل، أو الحالم الذي رأى أمانيه تنهار أمام عينيه، أو
الطيب الذي لم يحسن الدفاع عن نفسه في عالم ينهشه القساة.. هؤلاء جميعاً يشاركون
ذات المأساة، وذات الحاجة للبوح، كأنه ضرورة للبقاء. يقول نيتشه: "أحزاننا هي
الثمن الذي ندفعه مقابل عمق مشاعرنا"، فكلما كان القلب نابضاً بالحياة، كان
الألم أصدق، والبوح أعنف.
هذا البوح، رغم بساطته، يمثل رحلة
استكشافية إلى أعماق الجرح!، ليس مجرد كلمات تنسكب، بل تفكيك للألم وتحليل
لأسبابه، واستعراض لتفاصيله من كل الزوايا!، يصبح الإنسان في هذه الرحلة محققاً في
قضيته الخاصة، يراجع أحلامه المجهضة ويتساءل عن قيمتها الحقيقية: هل كانت تستحق كل
هذا العناء؟ من خلال تلك اللحظة، يتحول الانكسار إلى نقطة انطلاق جديدة لفهم الذات
بعمق أكبر، حيث يتجلى الضوء من بين الشقوق التي أحدثها الألم.
ولكن ماذا لو كان الانكسار نفسه مرحلة
ضرورية؟ أليس هو اللحظة التي يرى فيها الإنسان هشاشته، ثم يعيد بناء ذاته من جديد؟
يقول جبران خليل جبران: "الحزن يحفر في القلب، وبقدر ما يحفر، يستوعب القلب
فرحاً"، وربما لهذا السبب، يختبر الإنسان الألم بهذا العمق، ليكتشف أن داخله
قوة لم يكن يعرفها. الانكسار، حين ننظر إليه كجزء من عملية النمو، يصبح بوابة لفهم
أكبر للحياة ولذواتنا، إنه الحفر الذي، كلما تعمق، زادت قدرتنا على استيعاب الفرح،
وبهذه النظرة، يتجاوز الألم دوره كمعاناة ليتحول إلى تجربة نستلهم منها الحكمة،
ونستلهم بها قوة لم نكن ندرك وجودها.
وهنا، يظهر التوكل على الله كحبل ممتد
بين السماء والأرض، يشد على يد القلب المنهك، ويمنحه يقيناً بأن ما كُسر يمكن أن
يُجبر، وأن الليل مهما طال لا بد أن يعقبه فجر!، في لحظات الانكسار، لا يكون
التوكل استسلاماً، بل قوة خفية تُعيد التوازن للنفس، هو الإيمان بأن وراء كل فقدان
حكمة، ووراء كل ألم درس، ووراء كل انطفاء بداية جديدة. يقول ابن القيم: "إذا
أُغلق أمامك باب، فاعلم أن الله فتح لك باباً آخر، لكنك لا تراه الآن"، هكذا،
يصبح التوكل قوة دافعة نحو التعافي، وليس مجرد انتظار سلبي للأقدار.
عندما يجتمع البوح والتوكل، تتبدل
المعادلة!، ويصبح البوح بلسما لا جرحاً، والتوكل سكينة لا استسلاماً!، حينها فقط،
يدرك الإنسان أن الانكسار ليس نهاية، بل بداية لصياغة جديدة للروح، بروح أقوى،
أكثر صفاء، وأكثر يقيناً بأن الليل مهما اشتد سواده، لا يمكنه أن يمحو حقيقة أن
الشمس ستشرق من جديد.
وهكذا، نخرج من تجربة الألم أكثر
حكمة، وأكثر قوة، وأكثر استعداداً لمواجهة الحياة بتفاؤل وإيمان، فالحياة ليست
مجرد انتصارات متواصلة، بل هي فن إعادة البناء بعد الانهيار، وفن تحويل الشروخ إلى
نوافذ يدخل منها النور، وصنع بداية جديدة من بين حطام الأحلام القديمة، فلا شيء
يضيع ما دمنا قادرين على الوقوف من جديد، ولا ليل يبقى للأبد، فالشمس دائماً تجد
طريقها إلى الشروق.
جهاد غريب
مارس 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق