الخميس، 13 مارس 2025

 

الجمال والغموض: رحلة في دهاليز النفس!

 

اللقاء العابر:

قبيل منتصف رمضان لعام 2025، تحت وهج الشمس المتثاقل، كنتُ أتجول في سوقٍ قريب من محطة قطار العزيزية، أبحث عن بعض الأدوات المنزلية، شيءٌ يخص المطبخ، ويكمل تفاصيله الصغيرة. دخلتُ محلّاً لبيع الكماليات، وبينما كنتُ غارقاً في حديثٍ مع أحد الموظفين، اخترق صوتٌ جديد فضاء المحل، صوتُ امرأةٍ قادمة من بعيد.

 

استدرتُ نحوها دون وعي، كانت طويلة، طويلة بشكلٍ لا يمكن تجاهله، بيضاء كضوء الفجر، وعيناها بلون البندق الفاتح، ذاك اللون الذي يعلق في الذاكرة ولا يذوب!، لم تلتفت إليّ مباشرة، لكنها قاطعت حديثي مع الموظف وكأنها تقيس حضورها، أو كأنها تريد أن تُعلن وجودها، وأن تُجبرني على الانتباه، وكأنها راهنت على ذلك، وربحت، التزمتُ الصمت، وانسحب نظري إليها دون مقاومة.

 

أنهت استفسارها مع الموظف، ثم مضت، فوجدتُ نفسي أبتعد نحو رفوفٍ أخرى، كأني أهرب من أثرها، لكن القدر لم يتركني أبتعد كثيراً!، فجأة، كانت أمامي من جديد، تتقدم بثقة، ثم قالت بصوتٍ هادئ لكنه آمر: "أريد منك خدمة بسيطة". نظرتُ إليها، متسائلاً، قبل أن أجيب: "تفضلي". قالت دون تردد: "أريدك أن تحاسب عني هذه الأغراض". كان في يدها سلة صغيرة، محمّلة بأشياء لا تبدو أساسية، مجرد كماليات، لا طعام ولا شراب. للحظة، شعرتُ أني لم أسمع جيداً، لكنني نطقتُ دون تفكير: "لا أستطيع، أعذريني". ابتسمت، أو ربما لم تفعل، ثم قالت بهدوء: "لا باس، سيساعد الله الجميع". ومضت.

 

ظللتُ أتجول قليلاً، لكن عقلي بقي أسير هذا المشهد!، كنتُ أراقبها من بعيد، رأيتها تكمل تسوّقها كأن شيئاً لم يكن، ثم توقفت عند أحد أعمدة المتجر، كأنها تنتظر أحداً، رجلٌ ربما؟ أو حديثٌ آخر؟ أو طلبٌ جديد؟ لا أدري، لكنني أدركتُ شيئاً واحداً... هذه المرأة ليست عابرةً في يومي، إنها لغز، لغزٌ سيبقى يطاردني طويلاً.

 

الغموض الذي لا ينتهي!

كنتُ مندهشاً، مذهولاً حتى، كل هذا الجمال! كيف يمكن لامرأةٍ بكل هذا الحضور، بكل هذا السحر، أن تطلب مثل هذا الطلب؟ هل هو تسوّل؟ أم حاجةٌ دفعتها إلى ذلك؟ لكن حين نظرتُ إلى السلة، لم أرَ شيئاً يعكس ضيق الحال، لا ما يوحي بالحاجة الملحّة!، مجرد كماليات، أشياء يمكن الاستغناء عنها، إذن، لماذا؟

 

إنها ليست امرأةً غافلة عن العالم، لا تبدو ساذجة أو مترددة، بالعكس، كان في حضورها ثقةٌ لافتة، وفي صوتها هدوءٌ غير متوسل، فلماذا تلجأ إلى ذلك؟ أي امرأةٍ تفعل هذا؟ وكيف لم تفكر في العواقب؟ ليس كل الرجال مثلي، قد يصادفها رجلٌ آخر، يأخذ طلبها على نحوٍ مختلف، يشترط خدمةً مقابل خدمة، يستغل اللحظة لينتهي بها الأمر في زاويةٍ مجهولةٍ من هذا العالم.

 

لماذا تخاطر بهذا الشكل؟ هي ليست بفتاةٍ صغيرة، لا تزال جميلةً طبعاً، لكن في عينيها نضج الأربعين، ووعيُ امرأةٍ خبِرت الحياة وعرفت دهاليزها!، فماذا كانت تريد حقاً؟ لم يكن هذا تسوّلاً بالمعنى التقليدي، ولم يكن مجرد لفت انتباه، ولم أشعر أنه جزءٌ من نيةٍ سيئة، كان شيئاً آخر، شيئاً غامضاً لا أستطيع فهمه.

 

مرَّ يومان، وربما أكثر، وما زالت صورتها تتردد في ذهني كطيفٍ عالق بين الحلم واليقظة. لا أدري لماذا لم أنسَها بعد، ولماذا يلاحقني مشهدها بهذا الإلحاح. أهي تلك اللحظة العابرة التي انزلقتْ بين تفاصيل يومي دون تفسير؟ أم أن هناك شيئاً أعمق، شيئاً لم أدركه بعد؟

 

لماذا فعلت ذلك؟ هل أرادت أن تضع نفسها في موضع الحاجة دون أن تكون بحاجة؟ وإن كانت كذلك، فلماذا؟ ألأنها تستمتع بإرباك الآخرين؟ أم أنها تبحث عن شيءٍ آخر، شيءٍ لم أستطع قراءته في عينيها؟ ربما لم تكن المسألة في الطلب ذاته، بل في الطريقة التي قُدّم بها، في الثقة التي لفته، في التناقض الغريب بين الأناقة والتساؤل، بين الجاذبية والغرابة، كأنها تريد أن تثبت شيئاً، أو أن تكسر شيئاً، أو ربما فقط تترك خلفها أثراً في ذاكرة شخصٍ عابرٍ مثلما فعلت معي.

 

يبدو أن هذه التجربة حفرت أثراً عميقاً في داخلي، ليس فقط لأنها كانت غريبة، بل لأن تلك المرأة بدت وكأنها كائن استثنائي في عالمي للحظات، أو كأنها تنتمي إلى عالم آخر، عالم لا يخضع للتوقعات المعتادة!، كان في حضورها شيءٌ مغاير، شيءٌ يتجاوز الجمال إلى نوع من القوة الغامضة، إلى فكرةٍ لم أستطع فك شفرتها بالكامل!، هناك شيء ما في الغموض الذي لفّ طلبها، جعلني أفكر فيها حتى بعد انتهاء الحدث وكأنه لم يُغلق بعد في عقلي.

 

ربما لم يكن ما يجذبني شكلها فقط، ولا تصرفها وحده، بل التناقض الذي جسّدته!، امرأة جميلة، آسرة، لكن تفعل ما لا يُتوقع منها، هذا ما أطلق شرارة التأمل لدي. لماذا طلبت ذلك الطلب؟ هل كانت تختبر ردة فعلي؟ أم تختبر الرجال عموماً؟ لماذا تفعل ذلك؟ هل كانت بحاجة حقاً؟ أم أن لديها فلسفة خاصة في الحياة تدفعها للتصرف بهذا الشكل؟ أم أن الأمر أعمق من ذلك؟

 

وربما، في بُعد آخر، كانت تقدم سؤالاً خفياً عن القوة والضعف، وعن اللعبة التي يلعبها الجمال مع الواقع!، كيف يمكن لمن تمتلك هذا الحضور أن تضع نفسها في موقف كهذا؟ هل هو ضعف؟ أم استعراض لقوة خفية، لعبة تعلم قوانينها جيداً؟ أم أنها ببساطة اعتادت أن تطلب، وأن تحصل؟ ربما هي نموذج لسؤال أوسع: كيف يمكن لشخص يمتلك كل أدوات الجاذبية أن يلجأ إلى تصرف قد يُفسّر بأنه ضعف؟ أم أنها تجربة اجتماعية، أو حتى مجرد عادة عندها؟

 

ثم هناك شيء آخر، أكثر إثارة للحيرة: لماذا لم أحاول البحث عنها رغم أنني أفكر فيها؟ لماذا أسمح لهذا الغموض أن يطاردني؟ أهو خوفي من الإجابة، أم رغبتي في أن يبقى السؤال مفتوحاً؟ وكأنني أخشى أن أجد إجابة قد تفسد الغموض، أو أنني أفضل أن أبقى في حيرة وتأمل، لأن هذا الشعور بحد ذاته ممتع وغريب!، أحياناً، تكون الحيرة أكثر جمالاً من اليقين، والدهشة أكثر إغراءً من الحقيقة نفسها، ربما كل ما في الأمر أنني شعرتُ بلحظة نادرة من الافتتان!، لم يكن افتتاناً عابراً بجمالٍ واضح، بل بشيءٍ أعمق، شيءٍ يصعب وصفه... امرأة طويلة، بعينين واسعتين بلون البندق الفاتح، فاتنة، غريبة، غير متوقعة، وكأنها تنتمي إلى قصة لم تنتهِ بعد.

 

وفي النهاية، ماذا لو التقيتها مجدداً؟ ماذا سأقول لها؟ هل سأواجهها بأسئلتي؟ أم سأكتفي بالنظر إليها، وأتركها تمضي كما جاءت، غامضةً كما كانت؟ لا أدري!، كل ما أعرفه أن الدهشة ما زالت تسكنني، وأنني لم أعد متأكداً إن كنتُ أبحث عن إجابة، أم عن استمرار هذا الشعور الفريد الذي تركته في نفسي.

 

دوافع خلف الجمال:

في علم النفس، لا شيء يحدث عبثاً!، فخلف كل تصرفٍ دافعٌ خفي، وخلف كل كلمةٍ نيةٌ غير معلنة!، تلك المرأة التي قابلتها في المتجر، بجمالها الفاتن وطولها اللافت، لم تكن مجرد عابرةٍ في يومي، بل كانت لغزاً نفسياً أثار فضولي وأبقاني أسيراً لتساؤلات لا تنتهي!، لماذا طلبت من غريبٍ أن يدفع ثمن أغراضها؟ هل كانت تبحث عن الاهتمام؟ أم أنها أرادت أن تختبر مدى تأثير حضورها على الآخرين؟ أم أن الأمر كان أكثر تعقيداً مما يبدو؟

 

إذا نظرنا إلى الأمر من منظور فرويد، فقد يكون طلبها تعبيراً عن حاجة لا واعية للسيطرة، ربما كانت تريد أن ترى كيف يمكنها أن تحرك المواقف بإشارة بسيطة، أو ربما كانت تبحث عن الرضا من خلال لفت الانتباه!، والجمال، في هذه الحالة، ليس مجرد مظهر، بل أداة نفسية قوية يمكن استخدامها للتأثير على الآخرين، لاختبار حدود القوة الاجتماعية، أو حتى لملء فراغ عاطفي لا نراه.

 

أما من منظور يونغ، فقد تكون هذه المرأة تمثل "الأنيما" في نفسي، ذلك الجانب الأنثوي في النفس الذكورية، ربما كان تأثيرها العالق في ذهني يعكس حاجة داخلية لفهم هذا الجانب من نفسي، لفهم كيف يمكن للجمال أن يكون قوة غامضة تدفعنا إلى التساؤل عن أنفسنا قبل أن نتساءل عن الآخرين، لم تكن مجرد شخص، بل كانت رمزاً لشيءٍ أكبر، لفكرةٍ تتجاوز الموقف نفسه.

 

في مجتمعنا، الجمال ليس مجرد ميزة شخصية، بل عملة اجتماعية لها قيمتها وتأثيرها!، يمكن أن يُستخدم بوعي كأداة للتأثير، أو أن يتجلى دون قصد كقوة خفية تحرك المواقف. المرأة التي قابلتها في المتجر، بجمالها الفاتن وثقتها اللافتة، لم تطلب المال، بل طلبت لفتة، فعلاً بسيطاً يحمل في طياته تساؤلات أكبر: هل كان طلبها انعكاساً لحاجة حقيقية، أم أنه كان اختباراً غير مباشر لقوة الجمال في عالمٍ يُقدّس المظهر؟

 

في مجتمعات تُضفي على الجمال سلطة غير معلنة، يمكن أن يصبح وسيلة للتلاعب بالآخرين، أو للحصول على امتيازات معينة، لكن هل نحن مَن منح الجمال هذا الدور؟ هل نعيش في منظومة تجعل منه قوةً يمكن التلاعب بها؟ أم أن الأمر أكثر تعقيداً، حيث تتشابك الحاجة مع الامتياز، والتوقعات مع الواقع؟ ما حدث في ذلك اليوم يطرح فكرة أوسع: ليس كل تسوّلٍ دليل فقر، وليس كل طلبٍ استجداءً للحاجة!، أحياناً، يكون الأمر تعبيراً عن ديناميكيات اجتماعية معقدة، حيث يتداخل الجمال، والتأثير، والسلطة في مشهدٍ واحد، تاركاً خلفه أسئلة أكثر من إجابات.

 

هذه التجربة تذكرني بأن الجمال ليس مجرد مظهرٍ نراه، بل أداة نفسية معقدة، قوةٌ غير ملموسة يمكنها أن تعيد تشكيل إدراكنا، وأن تحرك مشاعرنا، وأن تترك أثراً لا يمحوه الزمن بسهولة. تلك المرأة، بجمالها وطلبها الغريب، كانت سؤالاً وجودياً بحد ذاتها. سؤال عن طبيعة التأثير، وعن القوة الخفية التي يمكن أن يمتلكها الجمال، وعن الطريقة التي يمكن أن يغير بها تفاعلاتنا، وعن الأثر الذي يتركه فينا، ومن جهة أخرى قد تعكس منظورها الشخصي، ربما كانت تريد أن ترى كيف ينظر الناس إليها، أو كيف يتفاعلون مع جمالها، أو كيف يستجيبون لطلباتها، لترى كيف يمكن للجمال أن يكون أداةً للتأثير.

 

هل الجمال مرآة يعكس أكثر من المظهر الخارجي؟ ربما هو مرآة تكشف الطبقات الخفية للنوايا، للتصرفات التي لا تبدو كما هي، للرسائل التي تحملها التفاصيل الصغيرة. تلك المرأة، كانت مرآةً عكست جزءاً من نفسي لم أكن أعرفه!، كانت تذكرني بأن الحياة ليست مجرد سلسلة من الأحداث، بل هي سلسلة من اللحظات، من اللقاءات، من الأسئلة، وأصبحتُ أرى أن بعض اللحظات، بعض اللقاءات، بعض الأسئلة، يمكن أن تغيرنا إلى الأبد!، تلك المرأة، تركت فيّ أثراً لا يُمحى، أثراً جعلني أرى العالم بشكلٍ مختلف، جعلني أرى أن هناك قصصاً خفية وراء كل وجه، وأن هناك دوافع خفية وراء كل تصرف.

 

قد يكون الجمال سؤالا نطرحه على أنفسنا!، سؤال عن طبيعة التأثير، عن القوة الخفية التي يمكن أن يمتلكها، عن الطريقة التي يمكن أن يغير بها تفاعلاتنا، عن الأثر الذي يتركه فينا. تلك المرأة، كانت سؤالاً بحد ذاتها، سؤالاً لا يزال يتردد في ذهني، سؤالاً قد لا يكون له إجابة، لكنه بالتأكيد يستحق أن يُطرح.

 

الجمال والأسئلة التي لا تنتهي!

في الأيام التي تلت ذلك اللقاء العابر، وجدتُ نفسي غارقاً في بحرٍ من الأسئلة التي لا تنتهي!، لم تكن الأسئلة تدور حولها فقط، بل حولي أنا أيضاً!، لماذا أثرت فيّ بهذا الشكل؟ لماذا لم أستطع أن أنسى تلك النظرة، وذلك الصوت، وذلك الطلب البسيط الذي حمل في طياته عالماً من الغموض؟ بدأتُ أتساءل عن طبيعة الجمال، وعن قوته الخفية، وعن الطريقة التي يمكن أن يؤثر بها على تفاعلاتنا اليومية. الجمال، في النهاية، ليس مجرد صفة جسدية، بل هو أداة قوية يمكن أن تُحرك المشاعر، وأن تُغير المواقف، وأن تترك أثراً لا يُمحى، لكن ما هو الجمال حقاً؟ هل هو ما نراه بأعيننا، أم ما نشعر به في قلوبنا؟

 

في ذلك اليوم، في متجر الكماليات، لم يكن جمالها مجرد مظهر خارجي، بل كان شيئاً أعمق. كان جمالاً يطرح أسئلة، جمالاً يدفعك إلى التفكير، إلى التساؤل عن دوافعك، عن ردود أفعالك، عن الطريقة التي ترى بها العالم. كانت تلك المرأة، بجمالها الفاتن وطلبتها الغريبة، مرآة عكست جزءاً من نفسي لم أكن أعرفه!، لماذا طلبت مني أن أدفع ثمن أغراضها؟ هل كان ذلك اختباراً؟ أم أنها كانت تبحث عن شيءٍ ما؟ شيءٍ لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، شيءٍ يحتاج إلى فعلٍ بسيط ليفصح عن نفسه، أحياناً، تكون الأفعال البسيطة هي الأكثر تعقيداً، لأنها تحمل في طياتها أسئلة لا نعرف كيف نُجيب عليها.

 

التسول، في معناه البسيط، هو طلب المساعدة. لكن في حالتها، لم يكن الأمر مجرد طلب للمال أو المساعدة!، كان طلباً يحمل في طياته رسالة، رسالة عن القوة، عن التأثير، عن الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم، هل كانت تدرك ذلك؟ أم أنها كانت تختبر حدود القوة الاجتماعية، لترى كيف يتفاعل الناس مع الجمال، مع الغموض، مع الطلبات غير المتوقعة؟ الجمال هنا ليس مجرد مظهر، بل هو أداة، سلاحٌ ناعمٌ يمكن أن يُحرك العالم بطرقٍ لا يلحظها الجميع. هل كانت تدرك قوتها؟ أم أنها كانت تبحث عن شيءٍ أكثر إنسانية، عن لحظة دفءٍ في عالمٍ يزداد برودة؟ أحياناً، يكون الجمال وسيلة للتواصل، للبحث عن اتصالٍ إنساني في عالمٍ يفتقر إليه.

 

هل الجمال شيءٌ يوقظ فينا التساؤل، لا عن الآخر فقط، بل عن أنفسنا أيضاً، وعن الطريقة التي نستجيب بها، وعن ما يحركنا فعلاً، وعن الأثر الذي يتركه الغموض حين يتجسد في هيئة امرأةٍ عابرة، ثم يختفي، تاركاً خلفه سؤالاً لا إجابة له. في ذلك اليوم، في متجر الكماليات، لم يكن ما حدث مجرد تفاعل عابر مع امرأةٍ جميلة، بل لحظة كسرت إيقاع العادية، وأطلقت في داخلي سيلاً من الأسئلة التي لم تهدأ حتى الآن، لم يكن الأمر متعلقاً فقط بجمالها، رغم أنه كان جاذباً وكأنها خرجت من لوحة فنية، بل بطريقة تصرفها، وبطلبها الذي بدا غير متوقع، وبردة فعلي التي لم أفهمها تماماً.

 

لماذا صمت؟ لماذا شعرتُ بتلك الدهشة التي شلّت كلماتي؟ أكان جمالها هو ما أربكني، أم الطريقة التي استخدمت بها هذا الجمال؟ هل كانت تختبر تأثيرها، أم أنني كنت أنا من وقع في فخ التفسير المفرط؟ تلك اللحظة لم تكن مجرد موقفٍ عابر، بل كأنها مرآة أُمسكت أمامي، عكست جزءاً من نفسي لم أكن أدرك وجوده، ربما لم أكن أبحث عن معنى في عينيها، بل عن شيءٍ أعمق في داخلي، عن إجابة لسؤال لم أسأله من قبل!، تعلمتُ أن اللقاءات العابرة ليست دائماً عابرة، بعضها يشبه شرارةً صغيرة، تشتعل في الذاكرة، تفتح أبواباً لمشاعر وأفكارٍ ظننا أننا تجاوزناها، أو لم ننتبه إليها من قبل!، تلك المرأة، تركت فيّ أثراً لا يُمحى، أثراً جعلني أرى العالم بشكلٍ مختلف، جعلني أرى أن هناك قصصاً خفية وراء كل وجه، وأن هناك دوافع خفية وراء كل تصرف.

 

الحلم الذي لم ينتهِ!

بعد أيام من التفكير المضني، قررتُ أن أكسر دائرة الحيرة، لكن هذه المرة، لم يكن البحث في الواقع، بل في عالم الأحلام، كانت الليالي التي تلت ذلك اللقاء العابر مليئة بتكرار المشهد، وكأن عقلي يرفض أن يترك اللغز دون حل، وفي إحدى الليالي، وجدتُ نفسي في حلمٍ غريب، حلمٌ بدا أكثر وضوحاً من الواقع نفسه.

 

بدأ الحلم في السوق قرب محطة القطار بحي العزيزية، لكنه لم يكن السوق الذي أعرفه!، كانت الألوان أكثر سطوعاً، والأصوات أكثر وضوحاً، وكأن كل شيءٍ مُصممٌ ليكون جزءاً من قصةٍ أكبر. كنتُ أتجول بين المتاجر، وأنا أعلم أنني أبحث عنها، عن تلك المرأة التي تركت فيّ أثراً لا يُمحى، كانت الصورة في ذهني واضحة: الطول الفارع، البياض الناصع، والعينان البندقيتان اللتان تشبهان نافذتين إلى عالمٍ آخر.

 

في الحلم، لم أكن بحاجة إلى أن أسأل أحداً!، كنتُ أعرف بالضبط أين أجدها، توجهتُ إلى المتجر نفسه، لكنه كان مختلفاً هذه المرة، الرفوف كانت أكثر ارتفاعاً، والضوء أكثر خفوتاً، كانت تقف هناك، في نفس المكان الذي رأيتها فيه لأول مرة، وكأنها تنتظرني. اقتربتُ منها ببطء، وقلبي يخفق بسرعة، كانت ترتدي نفس الملابس، وتحمل نفس السلة الصغيرة. عندما رفعت عينيها ونظرت إليّ، شعرتُ بأنها تعرفني، وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة.

 

"أنت هنا؟" قالت بصوتٍ هادئ، لكنه كان يحمل في طياته شيئاً من التحدي. "نعم، أردتُ أن أفهم"، قلتُ، محاولاً أن أبدو واثقاً، لكن صوتي كان يرتجف قليلاً. نظرت إليّ، وقالت: "الفهم ليس دائماً ضرورياً، أحياناً، تكون الأسئلة أكثر أهمية من الإجابات". قلتُ: "لكنني أريد أن أفهم، لماذا فعلتِ ذلك؟ لماذا طلبتِ مني أن أدفع ثمن أغراضك؟". ابتسمت ابتسامة خفيفة، وكأنها تعرف أنني سأطرح هذا السؤال. "أحياناً، نفعل أشياء لنرى كيف يتفاعل الناس، لنرى كيف ينظرون إلينا، لنرى إن كانوا يروننا حقاً". قلتُ: "وماذا رأيتِ؟". نظرت إليّ، وقالت: "رأيتُ أنك ترى، وأنك تفكر، وأنك تسأل، وهذا يكفي". ثم صمتت، ونظرت إلى السلة في يدها، وكأنها تختبرني مرة أخرى. "أحياناً، يكون السؤال أهم من الإجابة".

 

في الحلم، لم يكن هناك حدود للزمان أو المكان!، بعد أن تحدثنا، وجدتُ نفسي أتبعها، لكنها كانت تختفي كلما اقتربتُ منها!، كانت تظهر فجأة عند بائع الزهور، ثم تختفي عند بائع الفواكه، كنتُ أركض خلفها، لكنها كانت دائماً خطوةً أمامي، في لحظة ما، وجدتُ نفسي في مكانٍ جديد، مكانٌ لم أكن أعرفه!، كانت تقف هناك، في وسط ساحةٍ كبيرة، تحيط بها الأضواء والظلال، كانت تنظر إليّ، وكأنها تريد أن تقول شيئاً، لكنها لم تنطق بكلمة، ثم، فجأة، اختفت.

 

استيقظتُ من الحلم وأنا أشعر بالحيرة نفسها التي شعرتُ بها في الواقع، لكن هذه المرة، كانت الحيرة أكثر عمقاً، كان الحلم يطرح أسئلة جديدة، بل كانت ألغازاً أخرى: هل كانت تبحث عن شيءٍ ما؟ أم أنها كانت تختبرني؟ أم أن كل هذا كان مجرد انعكاسٍ لرغبتي في فهم ما حدث؟

 

في الحلم، كانت الإجابات أكثر غموضاً من الأسئلة، لكنني أدركتُ شيئاً مهماً: تلك المرأة لم تكن تبحث عن المال، أو عن أي شيء مادي!، كانت تبحث عن شيء آخر، شيء أعمق، شيء يتعلق بالإنسانية، وبالتفاعل، وبالرؤية. أصبحتُ أرى العالم بشكل مختلف، وأرى الناس بشكل مختلف، وأرى أن هناك قصصاً خفية وراء كل وجه، وأن هناك دوافع خفية وراء كل تصرف!، أصبحتُ أرى أن الجمال ليس مجرد مظهر، بل هو لغة، وهو رسالة، وهو سؤال.

 

أصبحتُ أرى أن الحياة ليست مجرد سلسلة من الأحداث، بل هي سلسلة من اللحظات، ومن اللقاءات، ومن الأسئلة، وأصبحتُ أرى أن بعض اللحظات، وبعض اللقاءات، وبعض الأسئلة، يمكن أن تغيرنا إلى الأبد.

 

جهاد غريب

مارس 2025

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

  على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!  لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك...